أرنست خوري عَكَس القرار الذي اتّخذته المحكمة الدستورية في تركيا، أول من أمس، والذي عدّل جزئياً مادتين من مشروع تعديل الدستور الذي قدّمته الحكومة، موازين القوى الحقيقية التي لا تزال لمصلحة حكومة رجب طيب أردوغان. فقد اقتصر قرار المحكمة على تعديل مادتين من المواد الـ 25 للرزمة الحكومية، التي أقرّها البرلمان في أيار الماضي، وستُعرَض على الاستفتاء الشعبي في 12 أيلول المقبل. وفيما لم يمسّ قرار المحكمة المواد التي تتيح محاكمة قائد الجيش وضباطه أمام المحاكم المدنية والمحكمة العليا، وليس المحاكم العسكرية حصراً، فإنّه تدخّل لتعديل المادتين اللتين تعيدان هيكلة المحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين.
وكانت المادّتان تنصّان على تغيير بنية وصلاحيات كل من المحكمة والمجلس الأعلى. ونصّ الاقتراح، الذي عُدِّل أول من أمس، على رفع عدد أعضاء المجلس الأعلى من 7 أعضاء حالياً، إلى 22، يرأسه وزير العدل ويكون نائب الوزير عضواً حكمياً فيه. وتنبع قيمة التعديل من أنّ 4 من أعضائه سيعيّنهم رئيس الجمهورية، والعدد الباقي تعيّنه أو تنتخبه مجموعة الأجهزة القضائية (المحكمة الدستورية ومجلس شورى الدولة ومحاكم الاستئناف والتمييز...). وهنا طرأ نقض المحكمة الدستورية ليحرم رئيس الجمهورية صلاحية تعيين أعضاء يمكن أن يكون اختصاصهم العلوم السياسية والاقتصاد، مع المحافظة على زيادة عدد الأعضاء وعلى حق الرئيس بتعيين أعضاء محامين أو أكاديميين.
وفي ما يتعلق بالمحكمة الدستورية، فإنّ عدد أعضائها سيصبح 17 بدلاً من 11 حالياً، بينهم 14 كان سيعيّنهم رئيس الجمهورية (بعد أن تختارهم المحاكم والمجلس الأعلى للتعليم ومحاسب الدولة)، لولا تدخّل المحكمة أيضاً لتحدّ من دوره في مجال تسمية الأعضاء. والتعديل الآخر هو على طريقة تأليف المحكمة الدستورية. وكان التعديل الدستوري الذي طرحته الحكومة وأقره البرلمان ينص على إلزام كل من محكمة التمييز ومجلس شورى الدولة ومحكمة التمييز العسكرية والمحكمة الادارية العسكرية العليا وديوان المحاسبة والمجلس الأعلى للتعليم ورؤساء نقابات الحقوقيين بالتصويت لمرشح واحد لعضوية المحكمة الدستورية. إلا أن هذه الأخيرة تدخلت وسمحت لهم بالتصويت لأكثر من مرشح.
وكان لافتاً أنّ قرار المحكمة يستهدف أولاً دور رئيس الجمهورية من ناحية صلاحياته وقدرته على التدخل في عمل كل من المحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين دون سواه؛ وكأنّ المحكمة، بقرارها هذا، تقطع الطريق أمام توسيع صلاحيات الرئيس في الوقت الذي ينوي فيه الحزب الحاكم، بمبادرة من رئيسه أردوغان، تحويل النظام السياسي للبلاد إلى جمهوري يقوم على جعل الرئيس هو المجسّد الفعلي للسلطة التنفيذية، مع احتمال أن يسعى أردوغان نفسه إلى احتلال هذا المقعد في حال تحقيق حزبه نتيجة مشرفة في الانتخابات التشريعية المقبلة في 2011.
ورغم أهمية المادتين اللتين تدخّلت فيهما المحكمة الدستورية، إلا أنّ المواد التي لم تمس بها مهمة للغاية أيضاً. فهي تتيح محاكمة قادة الجيوش أمام المحاكم العادية المدنية، كما تعيد للضباط والجنود المطرودين من الجيش بطريقة تعسفية حق مقاضاة الجيش من خلال فتح باب النقض على قرارات «المجلس العسكري الأعلى». وبموجب الرزمة نفسها، فبالإمكان محاكمة مدبري انقلاب عام 1980. ومن الأمور المهمة جداً في التعديل، أنه سينهي، في حال نيل موافقة المواطنين في استفتاء 12 أيلول، العمل بالمادة العاشرة التي كانت تحظر ارتداء الحجاب الإسلامي في الجامعات الحكومية. أخيراً، توسّع الرزمة الدستورية، حقوق الموظفين الحكوميين المدنيين في الاحتجاج بصورة جماعية ولكن ليس الإضراب، كما تعزز حقوق النساء والأطفال بحسب المعايير الأوروبية. يُذكَر أنّ أحد أهم بنود الرزمة الحكومية لم يجتز عتبة البرلمان، وهو الذي كان يصعّب آلية حظر الأحزاب السياسية.
بعملية حسابية بسيطة لعدد المواد التي عُدِّلَت بموجب تدخل المحكمة الدستورية، وتلك التي لم تطلها يدها، يمكن القول إن أكبر المتضررين من قرار المحكمة هو أحزاب المعارضة (تحديداً الشعب الجمهوري والحركة القومية اليمينية المتطرفة) وليس «العدالة والتنمية» والحكومة المنبثقة عنه، بدليل أنّ الحكومة قررت السير بالاستفتاء الشعبي، بينما قال رئيس أكبر حزب معارض كمال كليتش دار أوغلو إنّ «قرار المحكمة الدستورية لا يلبّي مطالبنا» التي كانت تُختَصَر ببند واحد: رمي الرزمة الحكومية بكاملها في سلة المهملات.
حتى إنّ وزير العدل سعد الله إرغين رأى أن «التعديلات تمثّل مراجعة مهمة للدستور حتى وإن حُذفت بعض الجمل»، موضحاً أنّ المواد التي ألغتها المحكمة «ستخضع أيضاً للاستفتاء»، فيما أشار رئيس المحكمة حازم كليتش إلى أن المواد التي لم تُلغَ هي التي ستعرَض وحدها على الاستفتاء.