باريس | موجة من المهاجرين، لا مثيل لها من قبل: نحو 340 ألف شخص حاولوا الوصول إلى القارة الأوروبية منذ بداية العام الحالي ــ عدا نحو 2500 لقوا حتفهم ــ وهو ما يفوق عدد الوافدين طوال عام 2014 الذي بلغ نحو 274 ألف شخص، بحسب الوكالة الأوروبية لمراقبة الحدود. أرقام في ارتفاع مستمر بانتظار حلول شافية، طال انتظارها، من الاتحاد الأوروبي.
هم غالباً سوريون، لكن منهم أيضاً من جاء من العراق والسودان وجمهورية الكونغو الديموقراطية وإريتريا. قاسمهم المشترك هو الحروب التي تنهش بلدانهم والتي تدفعهم إلى الرحيل نحو بلدان أكثر أماناً.
حتى ماضٍ قريب، كانت ليبيا نقطة الانطلاق الرئيسية التي باتت مرتع المتاجرين بالأرواح البشرية، إذ كان المهاجرون يعبرون البحر أملاً في الوصول إلى السواحل الإيطالية (صقلية أو لامبيدوسا) ومن هناك إلى باقي بلدان أوروبا الغربية. لكن مع مرور الوقت وتفاقم الأزمة، وبعد عدة محاولات للعبور من مصر نحو إيطاليا، ظهرت طرق جديدة للهجرة، تلك التي تعبر تركيا لتصل إلى سواحل جزيرة كوس اليونانية، ومنها إلى شبه جزيرة البلقان وأوروبا الوسطى. أما نقاط العبور الساخنة الأخرى فهي الحدود الفاصلة بين صربيا والمجر، وبين المجر والنمسا (للوصول إلى ألمانيا، وهي الوجهة الأولى للمهاجرين) ومدينة كاليه الفرنسية، لكونها أقرب نقطة للعبور نحو بريطانيا.
وإن شهدت بعض المدن في النمسا وألمانيا مسيرات ضمت آلاف المشاركين للترحيب باللاجئين، فضلاً عن صفارات الإنذار التي ما فتئت تطلقها المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين، فإن ردود فعل الساحة السياسية الأوروبية راوحت بين البحث عن حلول عملية، خاصة من الجانب الألماني والإيطالي والفرنسي، وبين خطاب قومي عدائي.
وبعد صمت طويل، ذكّرت المستشارة الألمانية، انجيلا ميركل، بالمبادئ الأوروبية المستلهمة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مؤكدة ضرورة الاهتداء إلى حلّ جماعي يضمن كرامة المهاجرين. كذلك نددت خلال زيارتها لأحد الملاجئ بأعمال العنف ضد المهاجرين، قائلة إن ألمانيا تأبى إلا أن تكون بلداً يستقبل ضحايا الحروب. خطاب تؤيده الأرقام، إذ إن ألمانيا هي البلد الذي يستقبل أكبر عدد من المهاجرين في أوروبا. وتسهّل السلطات استيعابهم لمواجهة شيخوخة السكان، فيما يجعلها اقتصادها المثمر وجهة مقصودة.
أما فرنسا، التي لطالما لقبت بـ«وطن حقوق الإنسان»، فقد تزامن إعلان رئيس حكومتها، مانويل فالس، منذ أيام مشروع بناء مأوى للاجئين في كاليه (في شمال البلاد) في غضون عام لاستيعاب نصف المهاجرين البالغ عددهم 3000 شخص، مع توقيع اتفاق بين فرنسا وبريطانيا لمكافحة المهربين الذين ينقلون المهاجرين عبر النفق تحت قناة المانش. وتعكس هذه المراوحة الجو السياسي الفرنسي، والأوروبي عموماً، الذي علت فيه أصوات الأحزاب اليمينية والجمعيات المتطرفة لتعبّر عن رفضها استقبال المهاجرين، لأسباب اقتصادية أو اجتماعية. وتتابعت التطورات في وقت كان فيه وزير الخارجية الفرنسي، لوران فابيوس، «يوبّخ» السلطات المجرية لبنائها حاجزاً يبلغ ارتفاعه أربعة أمتار على الحدود التي تفصلها مع صربيا ــ أي الحدود الفاصلة بين منطقة «شنغن» والبلقان ــ، وذلك بعدما وصل عدد الوافدين إلى المجر 3000 شخص في اليوم الواحد، من بينهم 700 طفل (جميعهم تقريباً من السوريين).

لم يصل النقد إلى حد التساؤل عن مدى مسؤولية الحكومات الأوروبية عن تردي الوضع الأمني في عدد من الدول

واللافت للنظر ضمن هذا المشهد أن الأزمة الراهنة أبرزت مرة أخرى هشاشة بنية الاتحاد الأوروبي الذي طالما سعى إلى أن يكون مجموعة فدرالية في مواجهة العملاق الأميركي، لكنه مرة أخرى يصطدم بجدار السياسة الخارجية. ولم تتردد بعض الأحزاب اليمينية في الحديث عن مراجعة اتفاقية «شنغن» إن لزم الأمر، التي سمحت بإلغاء جواز السفر وعمليات المراقبة بين الحدود الداخلية لـ26 من البلدان الأوروبية.
من جهة أخرى، وعلى صعيد إعلامي، انتقدت أصوات كثيرة صمت السياسيين الأوروبيين أو جمودهم، إما لبشاعة ما أظهرته صور الوكالات من معاناة المهاجرين في طريقهم إلى أوروبا، أو بكل بساطة استناداً إلى بعض الأرقام التي تفنّد الخطاب الذي يجعل من المهاجرين غير الشرعيين خطراً على التوازن الديموغرافي والاقتصادي للقارة الأوروبية: الوافدون منذ 2013 لا يمثلون سوى 0,15 في المئة من مجموع سكان الاتحاد الأوروبي! فهل يمكن الحديث عن تهديد لاقتصاد الاتحاد؟
لكن هذا النقد لم يصل إلى حد التساؤل عن مدى مسؤولية الحكومات الأوروبية عن تردي الوضع الأمني في ليبيا والعراق وسوريا والسودان وأفريقيا السوداء، وهو السبب الرئيسي الذي يدفع هؤلاء المهاجرين إلى المجازفة بحياتهم على أمل الوصول إلى أوروبا. تساؤل صار ملحّاً، خاصة بعدما أعلن الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، إمكانية تدخل الطيران الفرنسي في سوريا لضرب مواقع تحت سيطرة تنظيم «داعش»، وذلك خلال الندوة الصحافية نفسها التي وعد فيها باستقبال 24 ألف لاجئ سوري خلال سنتين.
من جهة أخرى، تساءل الكثيرون كذلك عبر وسائل الإعلام الأوروبية عن سبب رفض بلدان الخليج العربي فتح حدودها للاجئين السوريين، «وهي الأقرب ثقافة وديناً».
على صعيد ثقافي، تناولت أخيراً الأعمال الفنية مسألة اللاجئين، مثل فيلم «ديبان» السينمائي (للمخرج الفرنسي جان جاك أوديار الذي عُرف باهتمامه بالمهمشين اجتماعياً). وهو يروي قصة ناشط من طائفة التاميل فرّ في أثناء الحرب الأهلية في سريلانكا مع امرأة وطفلة ليستا من أهله على أمل أن تسهلا عليه طلب اللجوء إلى فرنسا، لكنه سيصطدم بحياة الهجرة المفعمة بالصعوبات. أما على الساحة الأدبية، فقد نشر الصحافي ومدير وكالة «كابا» الفرنسية، باسكال مانوكيان، أول رواية له تحت عنوان «Les échoués» (الهالكون على اليابسة)، وتدور أحداثها في لامبيدوسا في بداية التسعينيات. تتحدث الرواية عن أربعة لاجئين سيبذلون كل ما في وسعهم للوصول إلى فرنسا على أمل عيش حياة كريمة.
أعمال تتناول الموضوع من وجهة نظر اللاجئين لا المستقبلين وتعكس وجهة نظر الكثيرين في الساحة الفنية الفرنسية، حيث وقّع 66 فناناً عريضة تدعو الحكومات الأوروبية لاستقبال اللاجئين باسم القيم الإنسانية، ووعدوا بالتبرع لجمعيات تمدّ يد المساعدة لهؤلاء المهاجرين.