ليست باريس وحدها هي التي تصدح بانتقادات الحرب الأفغانية، أطول حرب حديثة لا تعرف كيف تنتهي. تعلو الأصوات من لندن وبرلين، وحتى من واشنطن، لكن لفرنسا خصوصيتها بأنها تؤدي إلى إثارة موضوع العودة إلى حلف الأطلسي
باريس ــ بسّام الطيارة
في الوقت الذي يعلن فيه وزير الخارجية الفرنسي، برنار كوشنير، أنه غير قادر على تحديد موعد لبدء انسحاب القوات الفرنسية المنتشرة في أفغانستان، بدأت تعلو أصوات الانتقادات لسياسة الحرب في العلن، وانطلقت ألسن بعض الجنرالات الفرنسيين نحو الصحافة لتسطّر انتقادات قلّما عرفتها فرنسا، حيث يطلق على الجيش صفة «الصامت الكبير».
ولا تتوقف هذه الانتقادات عند عتبة الحرب في أفغانستان، حيث ينتشر أكثر من أربعة آلاف جندي فرنسي، بل بدأت بقعة الزيت تكبر إلى أن وصلت إلى مسألة عودة فرنسا للحلف الأطلسي، التي أرادها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، رغم معارضة عدد من السياسيين، وخصوصاً بين صفوف حزبه اليميني، أن تنال دعم الأكثرية الشعبية.
وخرج مدير الكلية الحربية، الجنرال فانسان ديبورت، منذ وقت ليس ببعيد، بمقال صارخ في صحيفة «لوموند» ينتقد فيه تطور الحرب والاستراتيجية المتبعة، وهو أمر استثنائي جداً، لدرجة أن صحيفة «الفيغارو» لم تستطع في اليوم التالي أن تكبح نفسها من تناول الحدث في مقال تحت عنوان «أزمة في الهرم العسكري الفرنسي».
وكتب ديبورت: «لم يكن الوضع العسكري في أفغانستان أسوأ من اليوم». ووجه انتقادات لطريقة إدارة النزاع بقوله: «يجب إعادة دراسة استراتيجية هذه الحرب الأميركية».
وحسب أكثر من مراقب، فإن عدداً متزايداً من ضباط الأركان لديهم التوجه نفسه لجهة رأيهم في مسيرة هذه الحرب، وإن التزموا الصمت. وينصبّ التململ على «فرض الأميركيين على حلفائهم خياراتهم القتالية والسياسية»، ما دفع البعض إلى اعتبار أن العودة إلى الحلف الأطلسي «لم تكن فكرة جيدة» على أساس أن واشنطن «لا تكافئ حلفاءها جيداً».
وبالطبع لم يمض يومان حتى «عوقب الضابط» بتأخير ترقيته إلى ما بعد تقاعده. لكن هذه العقوبة لم تحل دون توسع الانتقادات إلى حدّ الحديث عن «التبعية العمياء» في الأرض الأفغانية. وقد يجسد كوشنير هذا الواقع؛ إذ إنه أجاب رداً على سؤال عن موعد انسحاب القوات الأميركية والأطلسية، ومنها القوات الفرنسية، من أفغانستان للمحطة الثالثة في التلفزيون الفرنسي بالقول: «لا أعلم أي شيء على الإطلاق»، مضيفاً أن الرئيسين الأميركي باراك أوباما والأفغاني حميد قرضاي قالا: «في عام ٢٠١١، سنسلم القيادة في بعض المناطق للجيش الأفغاني تحت قيادة الحكومة الأفغانية». وتابع الوزير الفرنسي قائلاً: «أعتقد أن الامر سيكون في العام المقبل». غير أنه استطرد بأنه لا يدري ما إذا كان ذلك يرافق انسحاباً للقوات. وأوضح ضرورة تجنب تحديد تاريخ في زمن الحرب، مبرراً ذلك بأن حركة «طالبان» ستتباهى بـ«نحن ننتظر هذا التاريخ».
وكان كوشنير قد دعا قبل يومين الأفغان إلى التحلي بـ«الشجاعة لصنع السلام مع أعداء الأمس» في إشارة إلى «طالبان»، في وقت تمدّ فيه الحكومة وحلفاؤها الدوليون اليد لهم. ورأى أن «الانتخابات التشريعية المرتقبة في أيلول المقبل ستكون اختباراً هاماً» لقدرة «طالبان» السابقين على الاندماج في اللعبة السياسية الديموقراطية.
وحذر كوشنير من أن اليد الممدودة لـ«طالبان» يجب ألّا تكون على حساب النساء، وألّا تدفع الأفغانيات «ثمن تسوية سياسية متسرعة»، فيما تثير هذه السياسة قلق المنظمات غير الحكومية المدافعة عن حقوق النساء.
والتململ داخل البيت الفرنسي ممّا يجري في أفغانستان نابع من غياب أي مناقشة للمشاركة في الحرب، على خلاف الوضع في كل من بريطانيا وألمانيا، فضلاً عن الولايات المتحدة. فلا المعارضة تريد التذكير بهذه الحرب البعيدة، التي بدأت حين كان اليسار في الحكم، ولا الحكومة تريد أن تدخل في تفاصيل ما يحدث على الأرض، حيث فُقد حتى الحين أكثر من ٤٥ جندياً فرنسياً.
إضافة إلى ذلك، فإن بعض الضباط لا ينظرون بعين الرضى إلى تراجع مخصصات الجيش الفرنسي في خضم سياسات تقشف واقتطاع من ميزانيات التجهيزات العسكرية، إضافة إلى برامج التأقلم مع معدات الحلف الأطلسي، الذي لا سيطرة لهم عليها كما كان في سابق العهد.
وفي سياق مؤتمر مساعدة أفغانستان، بدأت أسئلة كثيرة تدور حول «استعمالات المبالغ الضخمة التي تقدم»، وخصوصاً أن أكثر من مراقب يقول إنها «لا تصل إلى المدنيين الأفغان»، وأن نسبة كبيرة من هذه المساعدات تصبّ في الميزانيات العسكرية للدول المشاركة ونسبة أقل تأخذ مسالك الفساد لتصبّ في جيوب الطبقة الحاكمة التي بات «الحديث عن فسادها مملاً» على حد وصف أحد الخبراء.
يضاف إلى ذلك الحديث الجاري اليوم عن تقرير أخير صادر عن الكونغرس الأميركي ويشير إلى أن نسبة كبيرة من الأموال، التي تصب في جيوب المتنفذين المحليين، يعود قسم كبير منها إلى «طالبان»، بشكل خوة أو «مصاريف حماية». ويشير التقرير إلى أن حماية شاحنة تحمل مؤونة للقوات الدولية تكلف ما بين ألفين و١٥ ألف دولار.
حتى إن التقرير قال إن جيوش الحلفاء يدفعون للمتعهدين الذين بدورهم يدفعون لـ«طالبان» لتجنب مهاجمة المشاريع قبل تسليمها. ويتحدث أحد العائدين من أفغانستان عن أن القوات الفرنسية شقت طريقاً في مناطق انتشارها بلغ طولها ٢٠ كيلومتراً وكلف ٢٠ مليون يورو، ما يشير إلى أن تكلفة حماية إنشاءات حلف الأطلسي مرتفعة جداً مقارنة بما يصل إلى الأفغان المدنيين. ويلفت بعض المراقبين إلى أن «معاشات الخبراء الأجانب» تأكل قسماً كبيراً من مخصصات المساعدات الإنسانية.
وهنا صدق كوشنير حين قال إن الأمور لا تصطلح بين ليلة وضحاها، لكن السؤال الذي يطرحه الفرنسيون اليوم هو: متى يصل الأطلسي إلى الأهداف التي وضعها وسوّق لها وهي «إعادة بناء دولة أفغانستان»؟ الوزير ذكّر مواطنيه بوعد ساركوزي بأن «فرنسا ستبقى ما لزم الأمر» لذلك، وهو ما يمكن ترجمته بأنه «طويلاً».