لندن | كما كان متوقعاً، فاز المرشح اليساري جيريمي كوربن فوزاً كاسحاً، بزعامة «حزب العمال» البريطاني. فوز لا تزال نتائجه تذهل الكثيرين، بسبب حجم التصويت الذي صبّ لمصلحته بنسبة وصلت إلى حوالى 60% من الأصوات وبفارق كبير عن أقرب منافسيه. وربما يكون فوز المرشح المثير للجدل بزعامة «حزب العمال» المسمار الأخير في نعش الوسطية التي وُسم بها الحزب، في الفترة الماضية، والتي رفع شعارها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، الذي لم يفلح في الضغط على أنصاره داخل الحزب لعدم انتخاب كوربن، بعد التحذير من أن فوزه يمثل «إبادة» للحزب وضربة قاصمة لآمال عودته إلى الحكم مرة أخرى.
أما خليفة بلير، رئيس الوزراء الأسبق غوردون براون، فقد كان أكثر وضوحاً، من خلال الاستهزاء بالزعيم الجديد قائلاً «لا نستطيع أن نفعل الكثير لفقراء العالم إن كان حلفاؤنا يؤيّدون حزب الله وحماس وخليفة تشافيز واستبدادية بوتين في روسيا».

1- مواجهة الانقسام داخل «حزب العمال»

لعل من أبرز التحديات التي يواجهها الزعيم الجديد توحيد صفوف «حزب العمال»، بسبب التباينات الحاصلة بين قادة الحزب بشأن مسائل مهمة. بالفعل، لم يكد يمضي يوم على انتخابه حتى قدم ستة وزراء من حكومة الظل استقالتهم، لكن الخشية تبقى من وقوع ما كان قد حذر منه نواب من «حزب العمال» معارضون لسياسته، وهو إحداث انقلاب عليه إذا فاز في الانتخابات أو في مقاومة السياسات التي لا يحبونها. فقد حثّ كوربن أعضاء الحزب في البرلمان على إبعاد الشكوك وعدم الحكم عليه، مسبقاً، ومساعدته في وضع «استراتيجية فعالة» لمعارضة حكومة كاميرون، بشأن قضايا مثل إصلاح نظام الرعاية الاجتماعية والميزانية. رئيس الحزب المستقيل إيد ميليباند، الذي أعلن احترامه للنتيجة وتأييده لكوربن، رأى أن الطفرة التي شهدها الحزب من حيث الأعضاء الذين انضموا حديثاً ليشاركوا في انتخاب كوربن، ينبغي أن تترجم إلى طفرة في نشاط الحزب وتحويل المنتسبين الجدد إلى أعضاء فاعلين. من جهتها، حذرت صحيفة «ذا غادريان» اليسارية من أن بعض الوجوه المعروفة لن تعمل في فريق كوربن، بسبب الخلافات «الجوهرية» التي من شأنها أن «تزعزع سياسات حزب العمال».

كوربن معروف
بأنه رجل مبادئ فمواقفه لم تتغير منذ وصوله إلى البرلمان

كوربن الذي يدرك حجم خطورة الانقسام داخل «حزب العمال»، وما يمكن أن يستفيد منه خصومه في «حزب المحافظين»، ركز في خطابه الأول، بعد الفوز، «على القضايا التي تبنّاها منذ 32 عاماً في دعمه نظام الرفاه الاجتماعي في البلاد، إضافة إلى وحدة الحزب في المرحلة المقبلة واستعداده للتعاون مع الجميع من أجل أن يتصدر الحزب، مرة أخرى، نتائج الانتخابات المختلفة في البلاد». ربما تكون مسألة تشكيل حكومة الظل الجديدة فرصة لكوربن، تسمح له بإدخال بعض النواب إليها كوسيلة للالتفاف على قلة شعبيته بين نواب حزبه في البرلمان، حيث أعرب 20 نائباً فقط منهم عن دعمهم له. ولكن لا يزال على كوربن «المتواضع وصاحب الكاريزما» النهوض بالحزب، بعد خسارته المدوية في الانتخابات التشريعية في 7 أيار، أمام المحافظين بزعامة ديفيد كاميرون.

2- حكومة حزب المحافظين

أما التحدي الآخر الذي سيواجهه جيريمي كوربن، فيتمثل في قدرته على تطبيق شعاراته الاجتماعية في وجه حكومة كاميرون، خصوصاً في ظل التعامل الذي تبديه وسائل إعلام تابعة للمحافظين مع ظاهرة كوربن، بتشويه صورته من خلال التركيز على اقتناعاته اليسارية وعلاقاته مع حزب الله وحركة حماس، فضلاً عن اتصالاته بحزب الشين فين الإيرلندي.
كاميرون الذي ينتظره معارض شرس لسياسات التقشف، التي تعتمدها حكومته، هنّأ كوربن في اتصال هاتفي على الفوز، ولكن لم يكن أقل حدة من وزير خزانته جورج اوزبرون في وصف كوربن بأنه يشكل خطراً على الأمن القومي البريطاني، بسبب آرائه الرافضة للبقاء في حلف «شمال الأطلسي»، فضلاً عن مطالبته بالتخلي عن برنامج الغواصات التي تحمل صواريخ «ترايدنت» النووية. أما أعضاء «حزب المحافظين»، فلم يجدوا في قاموسهم سوى استخدام عبارة «الرفيق كوربن» للترحيب بوصوله إلى رئاسة «حزب العمال».
المواجهة ستكون على أشدها بين حكومة «المحافظين» وزعيم اليسار الجديد الذي يسعى إلى زيادة الإنفاق على الخدمات العامة كالمدارس والمستشفيات، ونزع الأسلحة النووية، وإعادة تأميم الشركات كالسكك الحديد، وإشراك التنظيمات الإسلامية كحركة «حماس» وحزب الله في مفاوضات السلام في الشرق الأوسط. وتحظى هذه السياسيات بتأييد الغالبية الساحقة من البريطانيين، كذلك فإنه وعد بالاعتذار عن الحرب على العراق، وأن يكون نصف وزراء حكومة الظل من النساء.
أوساط الأعمال البريطانية المحسوبة على «المحافظين» لم تتدخل في النقاش السياسي، واكتفت بالتحذير من بعض مقترحات كوربن، مثل فرض سقف على الأجور المرتفعة جداً وإعادة تأميم بعض الصناعات. ووقّع قرابة 55 خبيراً اقتصادياً رسالة نشرتها صحيفة «فايننشال تايمز»، في أيلول، للتنديد بالمشاريع «الخطيرة» لكوربن، لكنّ 40 آخرين وقّعوا رسالة تأييد له.

3- الملفات الساخنة

جيريمي كوربن المعروف بأنه رجل مبادئ لأنه لم يغيّر مواقفه منذ وصوله إلى البرلمان منذ عام 1983، من المنتظر أن يصطدم بسياسة حكومة كاميرون الخارجية، خصوصاً في ما يتعلق بالأزمة السورية وفلسطين والاتحاد الأوروبي. ستكون لتوجهات الزعيم اليساري تداعيات كبيرة على السياسة الخارجية البريطانية، لا سيما وعده بالاعتذار عن الحرب في العراق، التي رأى أنها قامت على أساس كذبة. كوربن الذي يعدّ من أشرس المدافعين عن حقوق الشعب الفلسطيني والذي يعرف بمعارضته الشديدة للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، سيشكل فوزه قوة إضافية باتجاه الضغط على الحكومة البريطانية لاعتراف رسمي بالدولة الفلسطينية، فضلاً عن ممارسة الضغوط من أجل الحدّ من دعم إسرائيل عسكرياً.
انتخاب كوربن سيربك علاقة بريطانيا مع الولايات المتحدة، بسبب مواقفه المطالبة بالخروج من حلف «شمال الأطلسي»، وذلك لحجم الأموال البريطانية المخصصة لميزانية الحلف، إضافة إلى رفضه بالمطلق لفكرة الحروب التي يشنّها الحلف في مناطق عدة.
أما في ما يتعلق بالأزمة السورية، فالزعيم الجديد لـ«حزب العمال» يعدّ من أشد المتحمسين للحلول السلمية، والمطالبة بجلوس كافة أطراف النزاع على طاولة الحوار لحل الأزمة، ويرفض فكرة التدخل عسكرياً لضرب «داعش»، فقد علّق في إحدى المرات في البرلمان على مسألة الضربات الجوية بالقول إنه «ليس مقتنعاً بأن الغارات على سوريا تعطي نتيجة غير مقتل المدنيين».
أما بالنسبة إلى قضية اللاجئين، فقد دعا إلى «إيجاد حلول سلمية» لمواجهة أزمة اللاجئين في أوروبا. وقال كوربن، بعد ساعات على انتخابه، إن «هدفنا يجب أن يكون إيجاد حلول سلمية لمشاكل العالم».
لا شك في أن فوز جيريمي كوربن بزعامة «حزب العمال» سيغيّر المعادلات السياسية في بريطانيا، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي. فبريطانيا التي لها وزن فاعل على المسرح والدولي وفي صنع القرارات المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط سيتغيّر أداؤها في إدارة الملفات الدولية الساخنة، لكن الرهان الأكبر يبقى على وصول كوربن إلى رئاسة الوزراء البريطانية، التي لن تكون في مصلحة فقراء بريطانيا فحسب، بل في سبيل إرساء السلام في منطقة الشرق الأوسط والعالم.