توزلا ــ ضحى شمسزحلت تربة المدينة القديمة في توزلا. فقد اكتشف الناس أنها تعوم فوق بحيرة مالحة. هكذا، ثابر الناس على استخراج ملحهم من أرضها عبر القرون، ما سبّب زحل التربة في مواضع كثيرة، جعلت أرض توزلا غير مستوية تماماً. هذا ما يقوله أحد الأصدقاء المطّلعين على تاريخ المنطقة. لكنّ المطبات التي حفلت بها الطريق المؤدية إلى هنا،

كانت ربما أخطر من التربة غير المستقرة للمدينة، وخصوصاً لمن تسوّل له الطريق وانسيابها وجمال الطبيعة الأخّاذ، الشرود. مرافقونا يتحدثون بالتوكي ووكي. إلى اليمين واليسار من السيارة أراض زراعية غارقة بمياه بدأت تدخل البيوت القرميدية الصغيرة التي تتوسط المزارع. ومع أنها لا تزال تمطر، فإن الناس بدأوا يخرجون أغراضهم ويرفعونها فوق مصطبات عالية مرتجلة هنا وهناك. القرميد ليس كما في بلادنا دليل بحبوحة، إنه ببساطة البيت البوسني التقليدي. أعلنت حالة الطوارئ خلال مشوارنا ذي الساعات الثلاث إلى هنا. الناس مشغولون بنكبة المزارعين، لا تزال تمطر منذ 3 أيام حتى أغرقت موسم الwقمح وموسم التبغ أيضاً. لا يزال فقراء البوسنة يعتاشون من التبغ. لديهم حتى ورق لف مثل ورق الشام الشهير. البوسنيون مدخّنون شرسون، وهم يدخّنون النرجيلة أيضاً. إعلان الطوارئ يعني آلياً التعويض على المزارعين. مرافقونا يتشاورون بالتوكي ووكي إن كان ممكناً العبور إلى المدينة أو علينا العودة أدراجنا إلى سراييفو. يأتي القرار بالعبور. يذيع الراديو خبراً يُترجم لنا: المدّعي العام لمحكمة البوسنة والهرسك ـــــ الذي التقيناه أمس ـــــ نفّذ ما كان قد قاله لنا في الاجتماع: «طلب إلى صربيا تسليم مجرمي الحرب عندها». تفصيل غير بسيط: المدّعي العام، واسمه ميلوارد باراسین، صربي. تتذكر حزمه في النقاش مع الوفد اللبناني: «لا تخفوا مشاكلكم تحت السجادة، سيأكلكم الغبار يوماً. نصيحتي ألا تسيّسوا الإنساني».
على جدران المدينة، تلاحظ وداد حلواني، رئيسة لجنة أهالي المخطوفين، شعار المعول والمنجل مطبوعاً على الجدران. يقول لنا المترجم إن أهل توزلا ما زالوا «ميالين إلى الاشتراكية ومرتبطين عاطفياً بالاتحاد السوفياتي القديم».
في المبنى الحديث والصغير، يستقبلنا المهندس عدنان ريزفيتش، وهو مهندس البرنامج الفريد والمدهش للمعهد الدولي للمفقودين ونائب المدير، ويقدم لنا د. رفعت كيسيتوفيتش رئيس قسم الأمراض في الطب الشرعي، الذي «كشف هوية كل رفات مرّ من هنا». يقول الرجل «لدينا نوعان من بقايا الضحايا: العظام، والمقتنيات التي وجدناها مع الضحايا حيث لقوا مصرعهم. عدد كبير من الأهالي قتلوا وهم يحاولون عبور خطوط الجيش الصربي إلى المناطق المحررة. بحثنا عن المقابر الجماعية على طول المسار الذي سلكوه. ووجدناها هناك. كذلك فإن ضحايا آخرين عزلوا عن عوائلهم في المصنع السابق (القاعدة الهولندية في ما بعد) إضافة إلى من أُسروا في الجبال واقتيدوا إلى أماكن الإعدام. حسب معلوماتنا، هناك خمسة مواقع إعدام جماعية، لكن نهاية عام 1995، تبين أن هناك محاولة لإخفاء المقابر عبر جرفها ونقلها إلى أماكن بعيدة. ولذلك أصبحنا أمام مقابر ثانوية هائلة: وهذا لبّ المشكلة في تحديد الهويات: لأن المقابر الثانوية اختلطت فيها الهياكل اختلاطاً كبيراً. لذلك بدأنا بالعمل على الهياكل المكتملة في المقابر الأساسية التي لم تنقل. في هذه الحال، كنا نكتفي بعينة واحدة من العظام، وكان يمكن التعرف إلى القتلى من الملابس أو الوشم على الجلد. لكن كان مستحيلاً العمل على المقابر الثانوية بالطريقة ذاتها، من دون فحص حمض نووي. عدد ضئيل حددت هوياتهم بالطريقة التقليدية. فسربرينيتشا تعاني من عدد هائل من المفقودين، أناس عاشوا أربع سنين تحت الحصار. كان ممكناً الاهتداء إليهم من الملابس المرقّعة لأن المدينة كانت محاصرة. في مقابلاتنا الأولى مع أهل الضحايا، حاولنا أن يتذكروا ما كان الضحايا يرتدونه للمرة الأخيرة. أغلبهم ذكور في منتصف العمر. كانت هذه قاعدة البيانات الأولية. في البداية لم نأخذ عيّنات من الدم، كان ذلك قبل تأسيس المعهد. لكننا اكتشفنا أن علينا أن نفعل. ثم أرسلنا عينات دم إلى الخارج. اكتشفنا فقط 172 هوية في أربع سنوات. لكن بعد تأسيس المعهد، سنة 2000، بدأنا بجمع عيّنات دم من أهالي الضحايا ، كما بدأنا بأخذ عينات من الرفات. سنة 2002، حددنا هوية 500 حالة. وبمرور السنوات ازداد عدد التشييعات. هذه السنة هناك 700 رفات مصدرة وثائق وفاتهم ينتظرون يوم التشييع الوطني».
على مداخل الغرف التي تجري فيها فحوص الحمض النووي، ملصق كبير عليه هلال ونجمة خضراوان ثم كلمة الفاتحة بالعربية. أسماء وأسماء لا تنتهي. الباب الذي استندت إليه وداد حلواني، تبين أنه بوابة غرفة التبريد التي تحفظ فيها البقايا. الجميع كان خائفاً عليها من التأثر إذا شاهدت بعينيها كيف يحصل الأمر. نصحوها بالذهاب إلى السيارة هي وغازي عاد، رئيس لجنة المخفين قسراً في السجون السورية. لكنهما لم يقبلا. فتحت الغرفة. أكياس وأكياس بيضاء تحوي أكواماً من العظام ملأت رفوف الغرفة المبردة. أما في الرفوف العالية، فأكياس سمراء في داخلها أكوام متعلّقات القتلى الشخصية. الأكياس مرقّمة ومشفّرة بالطبع. السرّية محترمة جداً هنا، كما سنرى لاحقاً في مختبرات قسم تحديد الهوية عبر فحوص الحمض النووي. الرائحة نفّاذة، باردة، لكنها محتملة مع إدراكك لمعناها، إلى أي موت عنيف ومخيف تدل. تتخيل لو كان في المستطاع جمع هلع الضحايا ساعة القتل، هل كان الأمر ليكون محتملاً؟
نخرج إلى الغرفة الأخرى التي سجّيت على طاولاتها الباردة هياكل عظمية عكف خبراء على تركيب ما حددت هويته منها كنوع من فسيفساء، تماماً كما في الحفريات الأثرية، بعد فحص كل عظمة للتأكد من أنها تعود إلى الهيكل ذاته. تلتفت حولك فلا تجد وداد. تخرج لتدخين سيجارة، فتجد هناك المهندس عدنان يفعل الشيء نفسه. وحدهم البوسنيون يفوقون اللبنانيين تدخيناً. تسأله كيف باستطاعة العاملين يومياً في هذه المكان أن يصارعوا الكآبة؟ فهؤلاء القتلى هنا هم أهلهم. يبتسم ابتسامة حزينة وهو ينفض سيجارته، ثم يقول: «نخترع نكاتاً لتبديد الحزن. النكات تخلق مسافة مع المأساة. نحن بحاجة إلى انتهاء المأساة، وهي لن تنتهي إلا بدفن كل الضحايا بعد التعرّف إليهم. هناك آثار فظيعة للكآبة على الناس، لكنني لا أستطيع أن أعطيك أرقاماً بعد. لا دراسات عن الموضوع. فقط نعرف».
تصعد إلى سيارتك وتنظر بعيداً من خلال رذاذ المطر الذي كان لا يزال ينهمر. تكتشف أن وداد أصبحت في السيارة ممسكة بمنديل ورقي تجفف به دموعها. هل هي دموعها أم أنه يخيّل إليّ من خلال المطر؟ لا، المطر ليس بهذه الغزارة.


فصل الإنساني والسياسي