Strong>القوى العراقية تعلن يأسها من حلّ داخليإخفاق جيفري فيلتمان في مهمّته أعاد الحياة إلى مفاوضات تأليف الحكومة في العراق، لأيام، قبل أن تدخل في غيبوبة تامة مفسحة المجال أمام حراك للأطراف العراقية على الساحة الإقليمية، من أبرز عناوينه مفاوضات يجريها إياد علاوي حالياً مع إيران

إيلي شلهوب
يبدو واضحاً أنّ مفاوضات تأليف الحكومة قد بلغت طريقاً مسدوداً في العراق. الإحساس باليأس يرتسم جليّاً على وجوه المعنيّين بهذا الملف. الكل ينتظر الفرج من خارج الحدود، من دون أن يعني ذلك أنّ مرور «كلمة السر» سيكون سلساً، مع أمل بالخلاص قبل انتهاء المهلة الدستورية لانتخاب رئيسين للبرلمان وللجمهورية.
لم تكن هذه هي الحال الأسبوع الماضي. كانت الحركة قد عادت تدبّ في ملف تأليف الحكومة، بعد أسابيع من الرتابة. تكثّفت اللقاءات ودخلت عناصر جديدة إلى لغة التفاوض، في مقدّمها الصراحة بصورتها الفجّة. لعلّ أبرز المناورات كانت تلك التي قام بها التيار الصدري على مجموعة من المحاور.
في المحور الأول، زار وفد من التيار المالكي. تحدّث أعضاؤه معه بصراحة بلغت حد الفظاظة، على ما تفيد مصادر وثيقة الاطّلاع. قالوا له، باختصار، إنه الوحيد من بين جميع شخصيات حزب الدعوة ودولة القانون من يمتلك مؤهّلات أن يكون رئيساً للوزراء. لكن لسوء الحظ لا هم يرضون به ولا أيّ من أفرقاء «الائتلاف الوطني». عرضهم كان بسيطاً: تنازل لإبراهيم الجعفري وإلّا فسيكون المنصب من نصيب إياد علّاوي. كذلك حال الرد: لا مانع، لكن لا السنّة ولا الأكراد سيقبلون. فكان الجواب: لا تحمل همّاً، اترك السنّة والأكراد علينا. عندها قال المالكي إنه لا يستطيع أن يعطي جواباً نهائياً قبل العودة إلى كتلته. (سبق أن كشفت مصادر قيادية في التيار الصدري وأخرى من أوساط علاوي عن هذا اللقاء، لكنها وضعته في سياق مختلف. راجع «الأخبار» 21/06/2010).
المالكي لفيلتمان: عندما تتدخّلون في القضاء الأميركي، تعالوا وتدخّلوا هنا
كذلك، زار أعضاء وفد التيار مرشح «المجلس الأعلى» عادل عبد المهدي، بحسب المصادر نفسها. وضعوه أمام خيارين: إمّا الانسحاب من السباق على رئاسة الحكومة والاحتفاظ بمنصبه نائباً لرئيس الجمهورية، أو الخروج من السلطة نهائياً. الرسالة كانت واضحة: لا تحلم برئاسة الوزراء.
الوفد نفسه زار الجعفري. وسعى أعضاؤه إلى رفع معنوياته وتعزيز ثقته بنفسه. أبلغوه أنهم زاروا الأطراف كلّها وأبلغوهم أنه المرشح الوحيد المقبول لديهم. هنا أيضاً كانت رسالتهم واضحة: لا تزهد بالمنصب ولا تتراجع.
بدوره، زار رئيس «المجلس الأعلى» السيد عمّار الحكيم المالكي وعرض عليه تقديم أكثر من مرشح من جانب «التحالف الوطني» إلى الكتل الأخرى، بحيث يفوز من يحقّق القدر الأكبر من الاستقطاب، ويحصل توافق عليه على الساحة الوطنية. عرض سارع المالكي إلى رفضه، متمسّكاً بفكرة أن يكون لهذا التحالف مرشح واحد فقط.
كذلك زار عادل عبد المهدي الجعفري وقال له ما مفاده إنه لا يريد أن يكون حجر عثرة في تأليف الحكومة، متعهّداً الانسحاب من السباق إذا وجد أنّ مساحة الرفض لشخصه كبيرة. وختم عبد المهدي اللقاء بأنه سيتوجّه لاستكشاف الوضع الإقليمي قبل اتخاذ قراره.
مصادر قيادية في التيار الصدري تنفي أن يكون قد حصل أيّ لقاء مع عبد المهدي. تقول، في المقابل، إنّ «لقاءً حصل مع علاوي. حاول فيه أن يروّج لمسألة الحق الدستوري. فقلنا له: «أن تبدأ دستورياً يعني أن تنتهي دستورياً. إذا كُلّفت بتأليف الحكومة، وعجزت عن فعل ذلك، فإنك ستنتهي إلى المعارضة، ونحن نريدك جزءاً من الحكومة. التوافق لا يتعارض مع الدستور بل بالعكس». وتضيف إنّ «هذا الكلام يبدو أنّه لم يعجبهم، فباشروا الترويج لمقولة إنهم يؤيدون عبد المهدي».

علاوي «يكتشف» الجعفري

في هذا الوقت، زار إياد علاوي، على رأس وفد ضم تسعة من كبار مساعديه، منزل الجعفري، وتناولوا طعام العشاء على مائدته. كان الحوار الجدي الأول بين الرجلين منذ مدة طويلة. في هذا اللقاء، يبدو أن الجعفري قد نجح، بحسب مصادر وثيقة الاطّلاع، في إقناع علاوي بالتخلي عن رئاسة الوزراء. لكن أبو حمزة، الذي قال للجعفري إنه «اكتشفه من جديد»، اشترط لذلك ثلاثة أمور: أولاً، ألّا تكون رئاسة الحكومة من نصيب المالكي. ثانياً، أن تحصل الكتلة «العراقية» على رئاسة البرلمان أو رئاسة الجمهورية. وثالثاً، أن تنال حصة من المواقع السيادية في الحكومة.
وتقول مصادر كتلة «العراقية» إنّ الجعفري عاد وردّ الزيارة لعلاوي بمثلها، في ظل معلومات تفيد أنّ الأميركيين أبلغوا حزب الدعوة أنّ علاوي لا يمانع بالجعفري رئيساً للوزراء، علماً أنهم يعدّونه مرشح التيار الصدري وإيران. وتضيف إنهم عادوا إلى طرحهم القديم القاضي بجمع العراقية ودولة القانون. مصادر قيادية في حزب «الدعوة» نفت علمها بواقعة كهذه، من دون أن تستبعد حصولها.
ومع ذلك، فإنّ مصادر رفيعة المستوى من الكتلة «العراقية» نفت «نفياً قاطعاً أن يكون قد جرى التطرّق خلال اللقاء مع الجعفري إلى أيّ تفاصيل لها صلة بالوضع الحكومي. بُحثت المواضيع التي ستواجهنا بعد تأليف الحكومة، من إصلاح للبرلمان والمؤسسات وغيره».

فيلتمان VS المالكي

الصدر للحكيم: لا أقبل المالكي إلّا على نحو أكل الميتة
أتى ذلك كله في وقت كان فيه نائب وزيرة الخارجية الأميركي جيفري فيلتمان يحصد الخيبة في اجتماعاته مع المسؤولين العراقيين. ولعلّ اللقاء الأبرز كان ذاك الذي عقده مع المالكي، وفيه تحدث الضيف الأميركي عن نقطة واحدة لا غير، على ما تفيد مصادر وثيقة الاطّلاع: إنّ القرار الذي خلصت إليه المحكمة الاتحادية باعتبار أنّ الكتلة الأكبر هي التي تحضر الجلسة البرلمانية الأولى وليس تلك التي فازت بالانتخابات، غير دستوري. كان جواب المالكي صارماً وجارحاً في الوقت نفسه. قال له «عندما يأتي اليوم الذي تتدخّلون فيه في أحكام القضاء الأميركي، تعالوا وتدخّلوا هنا في القضاء العراقي». وأضاف إنّ «القضاء العراقي محقّ ولو كان مخطئاً. له الحق في تفسير القوانين، وفي الاجتهاد أيضاً، وبهذا الحكم كان مجتهداً».

الحراك الإقليمي

مهما يكن من أمر. مع إطلالة الأسبوع الحالي، كان واضحاً أنّ مجموعة من القناعات قد تكوّنت لدى الأطراف العراقية المعنية. علاوي اقتنع أخيراً بأنّ رئاسة الوزراء باتت سراباً بالنسبة إليه. والأطراف الشيعية اقتنعت باستحالة التوصل إلى اتفاق في ما بينها على مرشح لرئاسة الحكومة، وبعقم البحث عن آليات داخلية للتوصل إلى نتيجة كهذه. بل بلغ بها الأمر حد الإعلان عن يأسها من التوافق الداخلي، ومناشدة الجوار التدخّل لإنقاذ العملية السياسية قبل انتهاء المهلة الدستورية في 14 تموز المقبل. ولهذه الغاية، بعثت أطراف البيت الشيعي، خلال هذا الأسبوع، كلّ على حدة، بوفود إلى سوريا وتركيا وإيران لاستطلاع الموقف. زيارتا الحكيم لدمشق منتصف الأسبوع، وعبد المهدي لطهران أول من أمس، تأتيان في هذا السياق. وهما الوحيدتان اللتان أُعلن عنهما.
وتقول مصادر رفيعة المستوى في «المجلس الأعلى» إن «اللقاء مع الرئيس (السوري بشار) الأسد كان محاولة لاستثمار النفوذ السوري في حلحلة بعض الأمور التي بلغت طريقاً مسدوداً. لم تُطرح خلاله أيّ أسماء». أمّا بخصوص زيارة عبد المهدي لطهران، واحتمال لقائه مقتدى الصدر، فتضيف المصادر إنه سيلتقي «الصدر لإقناعه بمشروع، لا باسم. مشروع كهذا سبق الحديث عنه بين الصدر والحكيم. هو ذاهب أيضاً في محاولة لحلحلة بعض الأمور». وتنفي المصادر القيادية في التيار الصدري أن يكون الصدر يعتزم استقبال عبد المهدي.
كانت هناك أيضاً زيارة قام بها وفد رفيع المستوى من قيادة حزب «الدعوة» إلى دمشق، حيث التقى الأسد. وتقول أوساط المالكي، التي تؤكد حصول زيارات مشابهة لطهران وأنقرة والقاهرة والكويت، إنه «كان هناك خلال الاجتماع اتفاق على طيّ صفحة وفتح صفحة أخرى، وعلى ضرورة أن يكون هناك تنسيق كامل بين الطرفين». وتضيف «بدا واضحاً أنّ السوريين يخافون من علاوي. هم يميلون إلى عبد المهدي وما عاد لديهم مشكلة مع المالكي على ما كانت عليه الحال في فترة مضت. الرئيس الأسد كان واضحاً. قال: ليس لدينا مشكلة مع أيّ من المرشحين. اتفقوا أنتم في ما بينكم ونحن نبارك».
وأشارت المصادر نفسها إلى أنّ «المالكي عندما تحدّث قبل أيام عن تدخّل إقليمي كان يقصد إيران. صحيح أنه لا مشكلة للمالكي مع طهران، لكن هذه الأخيرة تريده رئيساً للوزراء وفق جدول أعمالها وهذا لن نقبله أبداً. لذلك يحرّكون موضوع البصرة ضده على أمل أن يرضخ لهم».
وفي السياق، كشفت مصادر من الدائرة الضيقة لعلاوي عن «وجود مفاوضات تجري حالياً بين القائمة العراقية وإيران»، مشيرةً إلى أن «سوريا مصرّة على علاوي ولن تقبل أيّ شخصية غيره».

مطلوب رمز للسلطة

علاوي يطالب بالوزارات الأمنية كلها «كأنه يُعدّ لانقلاب»
خلاصة هذه اللقاءات لم تتجاوز واقعة اتضاح أولويات كل من الأطراف المعنية في ترشيحاتها لرئيس الوزراء: الجعفري (باعتباره كياناً ضمن «الائتلاف الموحّد») الأولوية لنفسه فالمالكي فعبد المهدي. «دولة القانون» تريد المالكي، وإلّا فالجعفري، ولا تقبل عبد المهدي إلّا بقرار من فوق. «المجلس الأعلى» مرشّحه عبد المهدي، وإلا فشخصية مستقلة ولا يمانع الجعفري وإلّا فالمالكي كخيار أخير. التيار الصدري يريد الجعفري ويقبل المالكي «على نحو أكل الميتة» على ما قال مقتدى الصدر لعمّار الحكيم. وهنا ثمّة تفسيران؛ مصادر وثيقة الاطلاع تفسّر قول الصدر بأنه لا يمانع المالكي على قاعدة الضرورات التي تبيح المحظورات، بمعنى أنه يحمل وجهاً إيجابياً. مصادر رفيعة المستوى في «المجلس الأعلى» تؤكّد أنّ جملة الصدر كانت بالحرف «لا أقبل المالكي إلّا على نحو أكل الميتة»، بمعنى أنّ الشرط كان لرفع حالة السلب لا إشارة للإيجاب. وتضيف مصادر «المجلس» إنّ «الأمور معقّدة على نحو سيئ جداً، ويبدو أنّ ذلك ناتج من استخدام منطق القوة ومنطق السلطة. إذا يئست الأطراف المعنيّة من استخدام هذه المنطق، فيمكن أن تكون هناك حلحلة. الكرة في هذا الملعب»، مشيرةً إلى أنّ الصراع لا يزال بين وجهتي رأي، تقول الأولى إنّ العامل الإقليمي هو الذي يقرّر اسم رئيس الوزراء والداخل العراقي يمتلك حق النقض، فيما تقول الثانية بالعكس.
وتؤكّد المصادر نفسها أنّ البلاد «على مشارف أزمة دستورية حادة. فراغ دستوري. يبدو الحل العملاني في أن يبقى رئيس السن للبرلمان إلى حين التوافق على صفقة شاملة، لكن مع انتخاب رئيس جمهورية، على أن تبقى حكومة المالكي حكومة تصريف أعمال». وتوضح أنّ «جلال الطالباني محطّ إجماع الكتل كلّها على تولّيه رئاسة الجمهورية. بذلك يكون لدينا رمز للسلطة على الأقل»، مشيرةً إلى أنه «إذا وافق الصدريون فسيأتي المالكي لكن بشروطهم، علماً أن ما ينقله هذا الأخير عن النجف غير دقيق».
في المقابل، فإنّ المصادر المقرّبة من علاوي تنفي نفياً قاطعاً أيّ إمكان لحصول سيناريو كهذا. تقول إنّ «هذا يُربك المشهد السياسي برمّته. الاتفاق رزمة كاملة. رئيس برلمان ورئيس جمهورية ورئيس وزراء كما حصل في 2005. لن نقبل لا نحن ولا أيّ كلتة أخرى حلّاً كهذا». وتضيف إنّ «الدستور ينصّ على وجوب انتخاب رئيس للبرلمان ورئيس للجمهورية خلال ثلاثين يوماً من انقضاء أول جلسة نيابية. هناك رأي يقول إنّ هذه الجلسة لم تُقفل، هي مفتوحة، وبالتالي، فإنّ مهلة الثلاثين يوماً لم تبدأ»، مشيرةً إلى «أننا مع الرأي القائل إنّ 14 تموز هو الموعد النهائي، لكنّ الأجواء لا تساعد على ذلك».

المالكي يهدد بالمعارضة

أمّا أوساط المالكي، فتؤكد من جهتها وجود تحرك من جانب «دولة القانون» تجاه «العراقية». لكنها توضح أنّ الرهان عليه ضئيل جداً، مشيرةً إلى أنّ «علاوي يريد الوزارات الأمنية كلها، الاستخبارات العامة، والدفاع، والداخلية، والأمن الوطني. كأنه يريد القيام بانقلاب». وأضافت إنّ «هناك مشكلة مع الأكراد، الذين يفضّلون عبد المهدي على المالكي، على اعتبار أنّ الأول تعهد لهم، كما فعل علاوي، خطّياً تطبيق المادة 140 من الدستور». وتابعت «نشعر بأنّ الاتفاق مع الصدريين مهمّ جداً، لكنه صعب جداً بشروطهم. يريدون أن نسمح لهم بتأليف ميليشيات وإطلاق المعتقلين، والتعهّد بعدم اعتقال أيّ من عناصر التيار الصدري. يريدون إعادة الأمور إلى الأيام التي كانوا فيها يسرحون ويمرحون دون رقيب ولا حسيب». ونفت المصادر نفسها وجود أيّ طرح من جانب المالكي لصفقة في مقابل تنحّيه. بل كشفت أنّ هناك اتجاهاً قوياً في حزب الدعوة نحو الانتقال إلى صفوف المعارضة إذا لم يتحقّق للمالكي ما يريد. وأوضحت «إمّا رئاسة وزراء بلا أيّ مسّ بصلاحياتها، حتى لو جاءت ضمن اتفاق. أي أن نكون على رأس دولة من دون تدخل إقليمي، مع احترامنا للجوار وحرصنا على إقامة أفضل العلاقات معه، تحت عنوان العراق أولاً. وإما أن نتحوّل إلى كتلة برلمانية معارضة قوية. لن نصوّت لعلاوي ولا لعبد المهدي. لن نكون شهود زور».
في المقابل، فإنّ مصادر علاوي تنفي أن «يكون همنا المناصب الحكومية. همنا بناء البلد، وهي مهمة نحن الوحيدون القادرون على القيام بها. لا حل لإنقاذ البلد إلّا بعلاوي رئيساً للوزراء».


العيون نحو المرجعية

عطّل الداخل العراقي دوره في عملية الاختيار، فاسحاً المجال للعامل الإقليمي ليؤدّي الدور كاملاً، وهذا كله بفعل الخلافات التي تعصف بالبيت الشيعي. لكن ذلك لا يعني أن الخيار الإقليمي إمراره محسوم في الداخل العراقي. لا أحد يضمن ألّا تعطّل الخلافات نفسها خيار «الجوار»، وخاصةً أنه سيرسو على واحد من الأسماء المطروحة الخلافية نفسها، بعدما طُرحت على مدى الأيام القليلة الماضية أسماء مجموعة من البدائل سقطت جميعها لفقدانها الرصيد الشعبي، والثقل المعنوي الذي يؤهّلها لتبوّء منصب كهذا. وإذا حصل السيناريو الأسوأ، لا يعود هناك مفر من تدخّل المرجعية لحسم الصراع في البيت الشيعي. سياسة «المسافة الواحدة من الأطراف كلها» تغدو بلا جدوى، بل تصبح خطراً يتهدّد العراق كله، لا المكتسبات الشيعية فيه فقط.