من رغب في فهم حقيقة المشاعر التركية إزاء مجزرة «أسطول الحرية»، وجب عليه متابعة صحف تركيا الصادرة أمس. مشاعر عكست حالة عامة، هي مزيج من الاحتقان الشعبي، إضافة إلى الموقف الرسمي، الذي أوصله رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان، في خطابه، وإن لفظياً، إلى حدوده القصوى
أرنست خوري
لم تشذّ أي صحيفة تركية عن الإجماع السائد في البلاد من ناحية التعبير عن الغضب تجاه «الإرهاب والبربرية والوحشية» الإسرائيلية. من الصحف الإسلامية الموالية، إلى تلك القومية اليمينية والأخرى المعارضة «اليسارية»، اتفاق على أنّ العلاقات التركية ـــــ الإسرائيلية لن تبقى على حالها بعد الجريمة، في ترجمة للموقف الرسمي الذي رأى أنّ الجريمة «قد تسبب أضراراً لن يكون ممكناً إصلاحها» بين تركيا وإسرائيل.
ملاحظات شديدة الحساسية عبّر عنها تركيز بعض الإعلام على «طمأنة» نائب رئيس الحكومة بولنت أرينش إلى أنّ بلاده «لن تعلن الحرب على إسرائيل». موقف استعملته صحف عنواناً، وهو ما يعكس الوضع الذي وصلت إليه العلاقات الثنائية بين الدولتين.
وكان الدم التركي، الذي يسقط للمرة الأولى على أيدي الإسرائيليين، ثابتة في معظم افتتاحيات الصحف التي استعادت ميادين العلاقات الثنائية التي يمكن أنقرة المبادرة إلى النظر بها، من العلاقات العسكرية إلى التجارية والسياسية والعلمية والنفطية والمائية... بعدما باتت الدولتان أقرب إلى العدوّتين في السياسة، وفقاً لتعابير رجب طيب أردوغان.
أما في المزايدات السياسية الداخلية، فلم ينزل أي موقف حزبي معارِض تحت سقف الموقف الحكومي، حتى إنّ نواباً من حزب المعارضة الأكبر، «الشعب الجمهوري»، زايدوا على الموقف الرسمي عندما حمّلوا الحكومة مسؤولية الجريمة لأنها «لم ترسل أسطولها البحري العسكري ليرافق ويحمي سفن المساعدات الإنسانية». كلام يضعه كثر في خانة السباق على الأصوات الانتخابية التي بدأ العمل على استقطابها في استحقاق الانتخابات التشريعية المنتظرة بعد أقل من عام.
وخصّصت صحيفة «توداي زمان»، المقربة للغاية من الحزب الحاكم، 5 عناوين للحدث الفلسطيني على صفحتها الإلكترونية الأولى: «إسرائيل تثير العالم عليها»، و«إسرائيل ستدفع الثمن غالياً»، و«أردوغان يتهم إسرائيل بإرهاب الدولة»، و«موقع إسرائيل يرتجّ» (مع صورة لعلم إسرائيل محاصَراً من الجهات الأربع).
أما المقال الأساسي، فكان عبارة عن استطلاع مواقف نواب وأكاديميين وسياسيين عن مستقبل العلاقات التركية ـــــ الإسرائيلية «التي لن تعود إلى سابق عهدها أبداً».
تغيُّر في العلاقات سيؤدّي، بحسب الأستاذ المعروف في جامعة بلجي، سولي أوزيل، إلى تغيّر موازين القوى في الشرق الأوسط، في إشارة إلى أنّ إسرائيل تدفع حليفتها السابقة، تركيا، إلى «الموقع الآخر»، موقع العداء لها، لإرساء ما سمّاه الرئيس بشار الأسد أخيراً «تحالفاً إقليمياً يضمّ دولاً من 5 بحار».
وفي السياق، رأى الأستاذ في جامعة الشرق الأوسط التقنية، إحسان داغي، أنه «من اليوم فصاعداً، لن تتمكن أي مؤسسة تركية، بما فيها الجيش، من تبرير أي تعاون مع إسرائيل»، مشيراً إلى أنّ الجريمة الإسرائيلية «قتلت أي إمكان للعمل معاً في أي مجال». حتى إنّ داغي أعرب عن ثقته بأنّ السلوك الإسرائيلي «لا يتعلق حصراً بحصار غزة، بل يستهدف أيضاً الدور التركي المتصاعد في الشرق الأوسط، وخصوصاً دورها في ما يتعلق بإيران»، في إشارة إلى الاتفاق النووي الذي كانت تركيا أحد عرّابيه مع البرازيل. بدوره، فإنّ رئيس المركز التركي للدراسات الاستراتيجية، سنان أوغان، شدّد على أنّ المشاهد الآتية من الصومال أكثر إنسانية من السلوك الإسرائيلي، معرباً عن ثقته بأنّ علاقات أنقرة وتل أبيب «لن يكون بالإمكان إصلاحها فعلاً»، في ترداد لكلام كرره أردوغان، أمس، عندما قال: «لن تعود الأمور بيننا إلى سابق عهدها أبداً». موقف شاركه فيه النائب السابق لوزير الخارجية أوغور زيال.
في المقابل، صدر موقف لافت لنائب مدينة بورصة عن «الشعب الجمهوري»، الرجل الثاني في الحزب، أنور أويمن، وهو دبلوماسي سابق، يلوم حكومة أردوغان لأنه «كان عليها أن ترافق أسطول الحرية ببارجات حربية تركية، بعدما حذرت تل أبيب من أنها ستستخدم العنف» مع سفن المساعدات. كلام مشابه صدر عن رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي، اليميني المتطرف، الذي وصف الهجوم على «أسطول الحرية» بـ«العداوة العلنية نحو تركيا»، مشيراً إلى أنّ الرد من خلال «استدعاء السفراء، والإدانات غير الفعالة، والقرارات الدبلوماسية والبطولات»، لا يفيد، داعياً البرلمان إلى عقد جلسة استثنائية لمناقشة العلاقات الإسرائيلية ـــــ التركية.

المعارضة التركية: كان يجب أن يرافق أسطولنا الحربي سفن المساعدات
في المقابل، اهتمت صحيفة المعارضة الأبرز، «حرييت»، بنسختها الإنكليزية، بنوعية الإجراءات التي قد تصدر عن الحكومة بحق دولة الاحتلال، وبالغطاء الأميركي الذي وفرته واشنطن للجريمة في مجلس الأمن الدولي، بينما علّق كاتب افتتاحيتها سادات أرغين بالقول إن «العلاقات مع إسرائيل بلغت أدنى مستوى، ومن الصعب الآن إصلاحها».
أما «ملييت»، فقد اقتبست عنوانها «إرهاب الدولة» من وصف أردوغان للجريمة الإسرائيلية، وهو ما فعلته أيضاً صحيفة «وطن» بمانشيت: «إنها دولة الإرهاب». كذلك كانت حال «الصباح» التي كتبت بالخط العريض «انتفاضة عالمية على المجزرة الإسرائيلية».
وكان طبيعياً أن تكتب صحيفة «يني شفق» الإسلامية، شأنها شأن زميلاتها من الصحف المكتوبة: «إسرائيل ارتكبت إرهاب دولة». وتُرجمَت القومية التركية اليمينية التي تعبّر عنها صحيفة «جمهورييت»، بعنوان معبّر هو «إسرائيل تهاجم الإنسانية». في المقابل، خصّصت «ردايكال» الليبرالية عنوانين للحدث: «شاهدنا البربرية مباشرة على الهواء» على خلفية سوداء (إشارة إلى الحداد)، و«لا تتوقعوا أن نعلن الحرب على إسرائيل»، وهو ردّ نائب رئيس الحكومة بولنت أرينش على سؤال أحد الصحافيين، أول من أمس. وشدّد كاتب افتتاحية الصحيفة على أن الأتراك الذين سقطوا في «مرمرة الزرقاء»، هم «أول ضحايا يُقتلون بسلاح أجنبي منذ التدخل العسكري في قبرص عام 1974».


أين هو السفير الإسرائيلي؟

بقي مشهد الشارع التركي مشابهاً لما ساد منذ ليل الجمعة ـــــ السبت: مقر السفارة الإسرائيلية في أنقرة بات عنواناً لاعتصامات نقّالة. ما إن ينتهي اعتصام لنقابة أو لحزب أو لمنظمة سياسية أو اجتماعية، حتى يصل وفد جديد. كذلك حال قنصلية الدولة العبرية في إسطنبول. أما محيط منزل السفير الإسرائيلي غابي ليفي في العاصمة، فكان له حيّز من اهتمام وسائل الإعلام. فالرجل لم يُكشَف عن مكان وجوده منذ تلقّى الاحتجاج القاسي اللهجة من وزارة الخارجية التركية، أول من أمس. كل من القوى الأمنية والمتظاهرين يحاصر منزله من الجهات الأربع، ولا مصدر يفصح عن مكانه، وعمّا إذا كان لا يزال في تركيا، أو أنه «هرب» مع الإسرائيليين الكثر الذين غادروا في اليومين الماضيين. ولـ«محاصرة» الشرطة منزل ليفي، سبب أمني موجب، بعدما تعرض لمحاولات اقتحام كثيرة وهجمات بالحجارة، تحت شعار: أطردوا السفير، واقطعوا العلاقات مع دولته المجرمة.