مؤتمر عالمي لمراجع إسلاميّة «معتدلة» في ماردين يعلن الحرب على التكفيريّةأرنست خوري
تواصل تركيا الشعبية والرسمية ما بدأته حكومتها من إعادة تعريف موقعها في العالم على جميع الصعد. داخلياً، بالتزامن مع مساعي الحزب الحاكم «العدالة والتنمية» فرض عقد اجتماعي جديد ينظم علاقة المواطن والسلطة السياسية من خلال تعديل دستوري يقرّب النظام السياسي من المعايير الأوروبية، تتواصل الجهود المحلية لمصالحة تركيا مع الإسلام الخاص بها. إسلام «حديث وسلمي»، يحاول أن يفرض نفسه بديلاً من تيّارين كبيرين: الأول، جسّدته محاولات عقود ما بعد أتاتورك في إخضاع الدين ومؤسساته لسطوة دولة علمانية «مَلَكية أكثر من الملكيين». والثاني، إسلام راديكالي وريث فتاوى قديمة، عرف أوجه تحديداً في حقبة ما بعد 11 أيلول 2001، من خلال أيقونته الأشهر، أسامة بن لادن وقاعدته.
وقد تكون ماردين، المحاذية للحدود السورية في جنوب شرق تركيا، مدينة نموذجية بالنسبة إلى الأتراك الراغبين بتقديم بلادهم على أنها نموذج يحتذى من ناحية «الاعتدال والتسامح» الديني. إنها مدينة ذات خصوصية، لكونها تضم تاريخياً، مسلمين أتراكاً وأكراداً وعرباً ويزيديين ومسيحيين سريان. كذلك فإنها المدينة التي احتضنت فتوى الشيخ الإسلامي الشهير ابن تيمية في القرن الرابع عشر، التي نظّر فيها لدار الحرب ودار الإسلام، وللجهاد ضد المرتدّين. أي إنها حاضنة الركائز الأساسية للإسلام الجهادي الراديكالي الحديث.
ولهذه الأسباب، نظّمت جامعة «أرتوكلو» الحديثة العهد، برعاية الحكومتين التركية والبريطانية و«المعهد الدولي للتجديد والإرشاد» والمنظمة الإسلامية غير الحكومية «كانوبيس»، بتغطية من فضائية «الجزيرة» القطرية، مؤتمراً دولياً تحت عنوان «ماردين: دار السلام»، طوال يومي عطلة الأسبوع الماضي، بمشاركة ممثلين رفيعي المستوى من شيوخ مسلمين عن نحو 15 مدرسة دينية «معتدلة»، من كل من تركيا والسعودية والإمارات وإندونيسيا والبوسنة والمغرب ونيجيريا والهند وألبانيا واليمن والسنغال والكويت وموريتانيا.
ما قاله أتاتورك لم يعد يجدي حرفياً في أيامنا، تماماً كما أن فتوى ابن تيمية خرجت من إطارها
وكان موضوع الندوة «فتوى ابن تيمية»، التي أطلقها في القرن الـ 14 وشرّع فيها إعلان الجهاد ضد احتلال المغول لمنطقة ماردين، بما أنّ هؤلاء كانوا مسلمين، لكنهم رفضوا تطبيق الشريعة، أي «مرتدّين» بحسب الفتوى، بالتالي يجب محاربتهم. واختتم المؤتمر بـ«إعلان ماردين»، الذي أعلن انتهاء مفعول هذه الفتوى الشهيرة، بما أنه، على حدّ تعبير مفتي البوسنة مصطفى كريك، «لم يعد هناك معنى لكلمة دولة إسلامية، بدليل أن المسلمين غالباً ما يجدون حريات دينية وحقوقاً في الدول الغربية، أكثر بكثير مما هو متوافر في أي من الدول الإسلامية. لم يعد التمييز بين دولة إسلامية وأخرى غير إسلامية، بل بين دول توفّر العدالة والحرية والأمن، ودول لا تفعل ذلك».
كلام تبنّاه وزاد عليه جميع المشاركين في المؤتمر، ممن وضعوا فتوى ابن تيمية في سياقها التاريخي، مشددين، في بيانهم الختامي، على «الوحدة ضد الإرهاب»، وعلى أنه «لا شيء يمكن أن يبرر الإرهاب والجرائم باسم الإسلام».
واختصر «بيان ماردين» أهمية المؤتمر وتوقيته ومكان انعقاده وهوية المشاركين فيه، بما أنّه، من فتوى ابن تيمية، وُلدت فتاوى «القاعدة» عن «العدو القريب» (الأنظمة الإسلامية التي لا تطبق الشريعة) و«العدو البعيد» (الأنظمة غير الإسلامية). ومنها أيضاً برّرت المدارس الإسلامية التكفيرية حربها على «المسلمين المرتدّين»، بدليل أنّ أسامة بن لادن لا يكاد يفوّت أي ظهور أو دعوة له، إلا يرفقها باستعادة «فتوى ماردين» للحض على شن هجمات على النظام السعودي، إلى جانب عواصم «الصليبيين واليهود» طبعاً.
ومن بنود «الإعلان»، رفْض أي شكل من أشكال الجهاد العنفي في سبيل أي هدف: لا لإقامة دول إسلامية، ولا للانقلاب على الأنظمة القائمة في الدول الاسلامية بحجة أنها ليست إسلامية بما فيه الكفاية. أضف التشديد على أنه «ليس علينا أن ننظر إلى الليبرالية العلمانية على أنها عدو للإسلام، بل علينا أن ندفع باتجاه أن يصبح النموذج العلماني الغربي أكثر استيعاباً للقيم الدينية في الحياة اليومية والاجتماعية»، على حد تعبير مفتي البوسنة.
التمييز لم يعد بين دولة إسلامية وأخرى غير إسلامية، بل بين دولة حقوق ودولة غير عادلة
وظهرت الأهداف الحقيقية من تنظيم المؤتمر في ما قاله الأستاذ المحاضر في معهد الدراسات الإسلامية في إسطنبول أحمد أوزل، الذي أشار في حديث لصحيفة «توداي زمان» إلى أنّ «الإعلان النهائي للمؤتمر يخاطب العالم الغربي أكثر من العالم الإسلامي»، وهو ما عبّر عنه قيام صحافيين أتراك بترجمة فورية لأعمال المؤتمر إلى الإنكليزية وتوزيعها على عدد من وسائل الإعلام الغربية.
وقارن أحد المراقبين المشاركين في المؤتمر، ما فعله «مؤتمر ماردين: دار السلام»، بما يحاول أن يفعله حزب «العدالة والتنمية» الحاكم من خلال القول إنّ ما قاله مصطفى كمال أتاتورك في مطلع القرن العشرين لم يعد يجدي حرفياً في أيامنا هذه، تماماً كما أن فتوى ابن تيمية خرجت من إطارها. كلام تابعه المحلّل الأميركي المتخصص بالشؤون التركية غراهام فولر، عندما أعرب عن أنه «إذا ظلّ الإسلام التركي مسالماً، فستتحول تركيا إلى ركن سياسي أساسي في المنطقة».


بحسب صحيفة «ملييت» التركية، رفض الجهاز الديني التركي الحكومي (مجلس إدارة الشؤون الدينية) تنظيم المؤتمر الدولي لأسباب غريبة: أولاً لأنّ «لا أحد في الأناضول وفي العالم يتذكّر فتوى دينية صدرت في القرن الرابع عشر»، ثمّ لأنّ «من غير العادل إرجاع كل العنف الحاصل في العالم الإسلامي، بعد 11 أيلول 2001، إلى فتوى ابن تيمية، وتجاهل الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الداخلية والدولية». واقتصرت المشاركة الحكومية على محافظ ماردين حسن دروار.