«العنصرية» الغائب الحاضر في جنوب أفريقياحبيب الياس
قتل رجلان أسودان زعيم اليمين المتطرف في جنوب أفريقيا أوجين تير بلانش، الأبيض. هذا هو العنوان العريض للخبر، القالب العنصري يلفّ الموضوع، ومهما حاول البعض إبعاده عنه فسيعود ويلتصق به. فكل ما يحصل في جنوب أفريقيا لا بد أن يكون للعنصرية دخل فيه.
القصة الرسميّة للقتل تحمل طابعاً اقتصادياً، فالشابان قتلا بلانش بعدما رفض دفع أجورهما. لكن خلال المحاكمة أُضيفت رواية تعرضهما لمحاولة الاعتداء الجنسي من تير بلانش. فقد أعلن المحامي بونا موروكو لأسبوعية «صاندي تايمز» أن أحد موكليه «تحدث عن محاولة للتحرش الجنسي دفعت به إلى اغتيال تير بلانش. وسيكون ذلك دفاعنا خلال المحاكمة».
ويذكر أن المدعي العام قد أعلن أنه عُثر على تير بلانش في فراشه وسرواله على مستوى الركبتين، غير أنه عاد للتخلي عن هذه الفكرة نظراً لعدم كفاية الأدلة. وفضل أن يشدد على الثقافة الموروثة من أيام النظام العنصري، حيث لا يزال عدد من المواطنين السود يعاملون بالطريقة نفسها، التي كانت سائدة قبل إلغاء النظام.
لكن غياب الخلفيات السياسية لم يمنع وجود تبعات سياسية للقصة، فتعهد حزب «حركة المقاومة الأفريكانية»، الذي أسسه بلانش في عام 1973، بالانتقام، مشدداً على وجود دوافع سياسية واضحة، فيما تجمع نحو ألف شخص للتعبير عن تضامنهم مع الشابين اللذين قتلا بلانش، حاملين لافتات كتب عليها «الموت لتير بلانش الموت لنظام التفرقة العنصرية».
وسواء كانت هي أسباباً اقتصادية أو جنسية، فإنها تعبّر في الحالتين عن طريقة التعاطي التي استعملها تير بلانش مع عماله، والتي هي تركة نظام التمييز العنصري. تركة ولّدت لدى الأخير الشعور بالتفوق على غيره ممن هم من غير لونه.
ورغم مرور نحو 16 عاماً على إلغاء نظام الفصل العنصري، غير أن جنوب أفريقيا لا تزال غير قادرة على الانتقال إلى حقبة ما بعد التمييز العنصري، اجتماعياً وثقافياً.
فالطبقة الفقيرة التي كانت محرومة حقوقها قبل 16 سنة، ومعظمها من السود، ترى أن أوضاعها لم تتغير. هذه المجموعة التي عايشت النظامين لا تزال تشعر بأنها مهمشة، في ظل تشبث أقلية من الملاكين والقوميين البيض بالامتيازات التي كانوا يتمتعون بها قبل عام 1994.
ويمكن وضع الجريمة، ضمن إطار الجرائم العديدة التي ترتكب في جنوب أفريقيا نتيجة تنامي الشعور بالإحباط، من نظام يبتعد شيئاً فشيئاً عن شعبه، من تمركز الثروات في يد قلة، ومن حالته الاقتصادية السيئة، التي لا يزال فيها البيض أغنياء ويملكون الأراضي، وانضم إليهم «الأغنياء الجدد» السود الذين بدأوا يميزون نفسهم عن محيطهم ويحاولون التمثل بأغنياء مرحلة ما قبل انهيار نظام التفرقة العنصرية.
كذلك فإنه منذ إعلان قيام الجمهورية الجديدة، لم يطرأ الكثير من التغيير على العلاقة الاجتماعية القائمة بين المزارعين البيض والعمال الزراعيين السود، في الريف الجنوب أفريقي، منذ أيام الاستعمار. فقد أدى عدم الحضور الفعال للدولة في الأرياف إلى توفير نوع من الحصانة الاجتماعية للمالكين، في وقت تقدمت فيه باقي البلاد باتجاه إلغاء العنصرية، وإن ببطء.
ومن يرد أن يذكر جريمة قتل تير بلانش، يجب عليه أيضاً أن يذكر الاعتداءات الوحشية التي يقوم بها أصحاب المزارع بحق العمال الزراعيين. ومن يرد التكلم على اعتداء عنصري، فعليه أن يتذكر آلاف العاملين الذين قتلوا على يد أصحاب المزارع.
وبسبب غياب أي قوانين تحمي العمال الزراعيين، فإن العديد من أصحاب المزارع لا يزالون يعاملون مستخدميهم بأسلوب إقطاعي، ويستغلونهم من النواحي الاقتصادية والاجتماعية وحتى الجنسية.
علاقة «السيد والخادم» لا تزال هي العمود الفقري للعلاقات الاجتماعية في المناطق الريفية من جنوب أفريقيا، وتؤكد استمرار النضال من أجل تنظيم العمالة الزراعية في المناطق الريفية.
وفي مرافعته خلال جلسة محاكمة قتل بلانش، أول من أمس، أشار محامي الدفاع إلى هذه النقطة، مفنّداً كيفيّة قيام بلانش بحسم قيمة ما يقدمه لعماله من شراب وطعام من رواتبهم التي لم تدفع أصلاً.

العديد من أصحاب المزارع لا يزالون يعاملون مستخدميهم بأسلوب إقطاعي

هذا يفيد بالقليل عن شخصية تير بلانش، التي كانت بالأساس وراء الإضاءة على هذه الجريمة أكثر من غيرها، فقد كان من أشد المناصرين لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، كذلك فإنه هدد بإشعال حرب أهلية للحفاظ على تفوق البيض، ونفذت حركته العديد من الهجمات الدامية مطلع تسعينيات القرن الماضي في محاولة لمنع إلغاء نظام الفصل العنصري، لكنها لم تقدر على إيقاف التقدم باتجاه التغيير.
وكان يعتقد أن السود ليسوا فقط في مستوى أدنى، لكنهم أيضاً تهديد خطير لـ«أفريكانرز»: «تنازلوا للإرهابيين والشيوعيين السود قليلاً، وسيدمرون البلاد».
وكما كان عنيفاً في حياته السياسية، كان كذلك في حياته الخاصة. وبالرغم من أن الحصانة السياسية استطاعت أن تحميه من دخول السجن في العديد من المرات، فقد سُجن مرة وحيدة بسبب تهجمه وتشويهه لعاملين أسودين، دخل أحدهما في غيبوبة.
لكنه، بحسب النقاد، قدم لجنوب أفريقيا خدمة كبير خلال الفترة الانتقالية، عبر إضعافه لحركته من خلال تسخيفها، فوقع عن صهوة حصانه في إحدى مسيرات حركته».