دعوى أميركيّة وتحقيقات أوروبيّة في احتيالات المجموعة الماليّةنيويورك ــ نزار عبود
كانت مجموعة «غولدمان ساكس» متّهمة دائماً من قبل الكثيرين بأنها «نافخة البالونات»، مثل بالون سندات الخردة في الثمانينيات، وبالون الإنترنت في التسعينيات، وبالون العقارات في مطلع القرن الحادي والعشرين. وفي نهاية النفخ يقع الانفجار، الذي يترك بين أيدي حملة الأوراق المالية هواءً فاسداً.
المجموعة عالمية بكل ما للكلمة من معنى. وهي تختص بنشاط الصيرفة الاستثمارية، وخدمة الأسهم والسندات، وإدارة الاستثمارات وغيرها. وإلى جانب تقديم المشورة، التي تدرّ عليها أرباحاً كبيرة، تتولى المجموعة كفالة الخدمات المالية وإدارة الأصول نيابة عن العملاء الذين يضمّون شركات وحكومات وكبار الأثرياء. وهي تمارس أيضاً تبادل المشتقات المالية والخدمات المختلفة لحسابها، فضلاً عن حساب عملائها.
بدأت المجموعة عملها عام 1869، ويقع مقرّها الرئيسي في جنوب حي مانهاتن في مدينة نيويورك. لكن لديها مكاتب كبرى في كل المراكز المالية في مختلف أنحاء العالم.
وحسب الدعوى الأميركية بحقّها، آثرت «غولدمان ساكس» مصالحها على مصالح المستثمرين، وتكسّبت، من خلال ما يعرف بـ«بروبرايتي تريدنغ» على حساب الزبائن، مليارات الدولارات. كانت تنصحهم، وتتولى نيابة عنهم شراء أصول كانت تراهن على خسارتها في أماكن أخرى. المجموعة نفسها تمثّل المتعامل الرئيسي في سندات الخزانة الأميركية، ولها ارتباطات وثيقة بالإدارات الأميركية المتعاقبة، بما فيها إدارة باراك أوباما. إذ كان من بين موظفيها وزيرا الخزانة السابقان: روبرت روبين، وهنري بولسون. يوم الجمعة الماضي، رفعت هيئة الرقابة المالية دعوى جنائية مدنية بحق المجموعة ونائب رئيسها فابريس تور، بتهمة «الاحتيال على الزبائن، بعدم كشف معلومات حساسة تتعلق ببضاعة مالية مرتبطة بقروض عقارية ضعيفة في أثناء ارتخاء سوق العقار الأميركية». الخبر كان كافياً ليجعل أسواق المال الأميركية تتهاوى وتخسر معها أسهم المصارف نسبة تجاوزت 13 في المئة في جلسة تداول واحدة.
لكن المسألة لم تتوقف عند «وول ستريت» والأسواق المالية. فقد دعا رئيس وزراء بريطانيا، غوردون براون، هيئة الخدمات المالية في لندن إلى فتح تحقيق فوري، مؤكداً أن الأنباء الأميركية أصابته بالصدمة ممّا وصفه بـ«الإفلاس الأخلاقي». وفي ألمانيا، طلبت هيئة الرقابة المصرفية «بافين» من هيئة الرقابة المالية الأميركية تفاصيل القضية.
أما الاتحاد الأوروبي فيحقق في دور مجموعة «غولدمان ساكس» في ترتيب صكوك تأمين على القروض الحكومية اليونانية. أمر منح المستثمرين ثقة بأن وضع اليونان المالي سليم، وأغراهم بتقديم المزيد من القروض على شكل سندات خزينة، وبذلك طمس العجز في ميزانية الدولة.
بدورها، قالت هيئة الرقابة الماليّة الأميركيّة إن «غولدمان ساكس» عمدت في أوائل عام 2007 إلى بيع صكوك ضمان للقروض العقارية من دون أن تكشف أن صندوق التحوّط «بولسون أند كو» ساهم في إعداد عرض البيع لحسابه، بينما كان الأخير يضارب بائعاً إياها من دون أن يمتلكها. لكن «غولدمان ساكس» لا ترى ضيراً في ذلك لأنه «عمل قانوني»، على حد تعبير مسؤول رسمي في المجموعة.
غبار أزمة «غولدمان ساكس» غطّى على ما عداه في حوار أخير مع رئيس وزراء بريطانيا، غوردون براون، الذي وصف ما جرى بأنه «عملية غش واسعة».
وكانت خسارة بريطانيا من نشاطات «غولدمان ساكس» كبيرة. فقد دفع مصرف «رويال بنك أوف سكوتلند» 841 مليون دولار لـ«غولدمان ساكس» من أجل بيع أصوله في صكوك كفالة «أباكوس»، التي كانت جزءاً من محفظة مصرف «أي. بي. أن. أمرو» الذي اشتراه المصرف عام 2007.
والحكومة البريطانية تسيطر على البنك الاسكتلندي الذي تلقى دعماً حكومياً تجاوز 70 مليار دولار، وكانت أكبر مساعدة قدمت لأي مصرف تجاري في العالم.
وقالت هيئة الرقابة المصرفية الأميركية إن «غولدمان ساكس» غشّت المستثمرين في المصرف الصناعي الألماني «دويتشه أندوستريبنك. آ. جيه.» حول علاقة صندوق «بولسون» بالصفقة. ولقد خسر المصرف الألماني 150 مليون دولار في صكوك كفالة «أباكوس». أما «بولسون» فكسبت مليار دولار من الرهان ضد البضاعة المالية التي ساهم في إعدادها مع «غولدمان ساكس». قضية جعلت وضع بنك الصناعة الألماني يهتز، ما استتبع ضخ الحكومة الألمانية 10 مليارات يورو عام 2008 للمحافظة على النظام المصرفي الألماني من الانهيار. لذا، لن يكون مستغرباً لجوء بريطانيا وألمانيا إلى القضاء لتعويض الخسائر الضخمة التي تكبّدتها جرّاء ممارسات «غولدمان ساكس» وشركائها.
أما الاتحاد الأوروبي فيحقق في صكوك كفالة «غولدمان ساكس» لقروض يونانية بقيمة 10 مليارات دولار مقدمة بالدولار والين. استخدمتها اليونان في التحويل إلى اليورو عند سعر صرف مرتفع جداً، فكسبت مليار دولار بهذا التلاعب. لذلك «لن يتوقف التحقيق الأوروبي عند حدود»، حسب مفوّض الشؤون المالية الأوروبي أولي ريهن.
إلى جانب هذه القضايا الكبيرة، تحقق السلطات المالية الأميركية بدور «غولدمان ساكس» كشريك للمجموعة الأميركية العالمية (أيه. آي. جي.)، وهي كبرى شركات التأمين في العالم. وكانت قد حصلت على مساعدة مالية عام 2008 بقيمة تجاوزت 182 مليار دولار. أمر ضمن لـ«غولدمان ساكس» استرجاع حقوقها بالكامل وقدرت بنحو 13 مليار دولار، وساعدها على الخروج من الأزمة المالية المستمرة بأرباح تاريخية. فكانت إدارتها تتباهى بأنها حققت إنجازاً كبيراً رغم المحن المالية.


الأزمة والإصلاح الماليوالأزمة ستترك، حسب آراء معظم الخبراء، آثاراً بعيدة المدى على النظام المالي الأميركي الذي يتعرّض حالياً لمراجعة تنظيمية تبحث في مجلس الشيوخ. ومن أبرز بنود خطة الإصلاح إعادة النظر بـ«المشتقّات الماليّة المعلّبة»، ولا سيما صكوك كفالة الديون التي ينظر إليها كسبب من أسباب تفاقم الأزمة المالية. وهذه تتجاوز قيمتها 60 تريليون دولار. صكوك يتمّ من خلالها التأمين على استثمارات لا يملكها المستثمر في الأساس. والتأمين قد يكون بعشرات أضعاف قيمة الأصول العينيّة.