ضرب ورشق وقتل: انقسامات طبقيّة ــ إثنيّة تُترجَم باعتداءات على السياسيّينأرنست خوري
قبل يومين، تعرّض وزير الطاقة والثروات الطبيعية التركية، تانر يلديز، لاعتداء في محافظة قيصري، من مواطن، خلال تشييع جندي قُتل في معركة ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني. بقبضة يده، انتقم شاهين شمشك من حزب يلديز لأنّه يسعى إلى مصالحة الأكراد.
الأسبوع الماضي، ضرب المواطن إسماعيل جليك (27 عاماً)، رئيس حزب «السلام والديموقراطية» الكردي، النائب أحمد تورك، على وجهه في مدينة سمسون، فُكسر أنفه شأنه شأن يلديز، وذلك بعد إلقائه بياناً بعد محاكمة أحد محازبيه المتهمين بدعم «العمال الكردستاني». ولم يكن حال رئيس الحزب المعارض، «الشعب الجمهوري»، دنيز بايكال بأفضل من تورك ويلديز، إذ أصيب بالحجارة والبيض لدى زيارته محافظة فان الشرقية ذات الغالبية الكردية.


يبقى الأساس في الكره الوجودي بين الأكراد والعلمانيين والإسلاميين والشيوعيين

وقبل يلديز وتورك وبايكال، حصلت عشرات الاعتداءات، انتهى بعضها بقتل سياسيين، على أيدي زملاء لهم، أو مواطنين. وأمام انفجار الاحتقان السياسي والاجتماعي بين الأتراك، على صورة عسكرة الحياة السياسية، شُغلت الصحف التركية في استقصاء هذه الظاهرة غير الحديثة، لكن لا شك في أنها بلغت اليوم مرحلة من الذروة لم تبلغها من قبل.
صحيح أنّ الاعتداءات على السياسيين ليست حكراً على تركيا، وأنها منتشرة في كل دول العالم، ولو بنسب متفاوتة، إلا أن التحليلات والتقارير التي أعطت للموضوع أهميته على صفحات الجرائد، وخصوصاً «حرييت» و«توداي زمان»، أجمعت على أنّ الوضع يتخذ خصوصية معينة في تركيا لأسباب عدة؛ فالمجتمع التركي هو أحد أكثر المجتمعات انقساماً، طبقياً وإثنياً وسياسياً. من هنا، فإنّ الاستغلال الرأسمالي ينتج بالضرورة شعوراً بالعجز لدى مواطنين واقعين تحت قبضة ثراء مستجد لطبقات كانت وسطى ومستغلة، بينما هم عاجزون عن الاستفادة من صعود وتيرة الرأسمالية التركية التي باتت تضع هذا البلد في المرتبة الـ15 في سلّم أكبر الاقتصادات في العالم. ولطالما عبّر عجز الفقراء عن نفسه بالانقضاض على طاقم الطبقة السياسية التي تجسّد، في الضمير الشعبي، صورة نمطية للثريّ المستغِلّ. لهذا، فإنّ النائب الاشتراكي التركي السابق، شتين ألتان، يعيد، في كتابه الأخير «عندما كنتُ نائباً»، الذي يروي فيه تعرُّضه للضرب على أيدي نواب اسلاميين في عام 1968، ظاهرة عنف الحياة السياسية لبلاده إلى الأحوال الاقتصادية الاجتماعية المزرية للمواطنين. وعلى حد تعبيره، فإنه «ما دام استغلال الشعب والبطالة والقمع الاجتماعي سائدة، فلن نتمكّن من إحلال الانتظام العام في المجتمع ولا في البرلمان».
قراءة يسارية ـــــ اجتماعية ـــــ اقتصادية يقلل من أهميتها آخرون في سبيل تفسير تصاعد العنف السياسي في تركيا. ويؤكّد كثيرون أنّ الأساس يبقى في الكره الوجودي السائد منذ تأسيس الجمهورية، بين الفئات الأربع للمجتمع التركي: الأكراد والعلمانيون والإسلاميون والشيوعيون (الذين خفّ وزنهم جذرياً بعد موجة التصفيات التي طالتهم خلال الحرب الباردة).
وفي السياق، يشير عالم النفس أيتكين سير إلى أنّه يجدر البحث أولاً عن الانقسام العمودي للمجتمع التركي الشديد التسييس، لافتاً إلى أنّ العامل الأساسي الذي يدفع أي مواطن إلى القفز على مسؤول سياسي لضربه، هو «الشعور الإثني العزيز جداً على قلوب الأتراك، وخصوصاً في ما يتعلق بالمسألة الكردية». هكذا، كان لافتاً للغاية اعتراف شمشك، الذي ضرب الوزير يلديز، بأنه فعل فعلته انتقاماً من حكومة رجب طيب أردوغان على خلفية تقدّمها بـ«مبادرة الانفتاح الديموقراطي» الهادفة إلى إبرام مصالحة تاريخية مع أكراد البلاد.
على أنّ سير لا يستبعد أن يكون خلف ضرب تورك أو غيره، إرادة لا علاقة لها بردة فعل عفوية تُرجمَت باعتداء جسدي، كأن يكون المعتدي مدفوعاً بفعل قرار سياسي لطرف من مصلحته أن تسود


ما دام الاستغلال والبطالة والقمع باقية، فلن نتمكّن من إحلال الانتظام العام

الفوضى واللااستقرار في الحياة السياسية التركية.
وعن الانقسام المتعاظم الأثر منذ وصول حزب «العدالة والتنمية» إلى الحكم قبل 8 سنوت، وإمكان العودة إليه لفهم تصاعد وتيرة العنف السياسي، يمكن التذكير بأنّ التحذيرات كثرت في الآونة الأخيرة من مغبّة صعود الكره المتبادل على نحو غير مسبوق بين الأتراك، وذلك لأسباب باتت معروفة. فالإسلاميون خرجوا من مساجدهم إلى عالم السياسة، واحتلوا الرئاسات الثلاث. شعر العلمانيون بأنّ قيمهم مهدّدة، فكان لا بدّ لهم، ممثلين بالجيش وبأحزاب المعارضة الكمالية وبنقابات رجال الأعمال والمال، أن يردّوا اعتبارهم في مكان ما. لكن هذا المكان بات مستحيلاً أن يكون عبر الإسلاميين، بما أنهم أصبحوا غالبية ساحقة في المجتمع. لذلك، كانت الحلقة الأضعف هي الأكراد، الشاعرين بدورهم بزيادة التهميش والقمع بحقهم، فكان من الطبيعي أن تنفجر العداوات الثلاثية الأبعاد هذه، بأشكال عنفية ستزيد وتيرتها، برأي البعض، ما دامت القضية الكردية من دون حل، وما دام التعديل الدستوري قاصراً عن بناء تركيا جديدة عادلة وديموقراطية بالفعل، وما دام سعي تركيا إلى احتلال المركز الخامس في الاقتصاد العالمي المعولم في عام 2025، على حساب الطبقات المستغلّة.