strong>بول الأشقرصادف أمس مرور نصف قرن على تدشين برازيليا، عاصمة البرازيل. وقبل ذلك، كان على البرازيليين، إضافة إلى بناء العاصمة، تخطّي الاعتراضات ومواجهة الحملات المضادة وحسم الجدل، الذي دام كل فترة التشييد، حول فائدة نقل العاصمة، وخصوصاً ترك ريو دي جانيرو «المدينة الخلابة» للانتقال على بعد 950 كيلومتراً إلى مدينة أخرى في وسط العدم. حكاية بناء عاصمة جديدة في الداخل أسطوانة قديمة في التاريخ البرازيلي، مثل إلغاء الطائفية في لبنان، الكل يتحدّث عنها ولا أحد يبادر. الاعتبارات التي حركت هذا الحلم عكست حاجتين: أمنية، تمثلت في نقل العاصمة إلى الداخل بعيداً عن الشواطئ كوسيلة لحمايتها من عدوان محتمل، واندماجية على اعتبارها أداة لتوحيد البلد وتفعيل داخله وتشجيع السكن المحصور على الشواطئ فيه.
ظهرت أولى إشارات انبعاث هذا الحلم مع رئيس وزراء البرتغال في القرن الثامن عشر، ماركيز دي بومبال، ثم أعاد طرح الموضوع أحد أشهر الاستقلاليين في بداية القرن التاسع عشر، خوسيه بونيفاسيو، وهو أول من استعمل اسم برازيليا. كما يتضمن أول دستور جمهوري في نهاية القرن التاسع عشر ضرورة تخصيص أراضٍ مساحتها 14400 كيلومتر مربع لبناء العاصمة الجديدة التي كانت آنذاك تسمى فيرا كروز. وبمناسبة مرور 100 عام على استقلال البرازيل، حُدّد المكان عام 1922، وكان مطابقاً لحلم كاهن إيطالي، جواو بوسكو، قبل عقود، ووُضع له الحجر التأسيسي. وطوي الملف.
خلال رئاسيات عام 1955، سُئل المرشح جوسيلينو كوبيتشيك في مهرجان انتخابي عما إذا كان ينوي تنفيذ التوصية الدستورية ببناء عاصمة جديدة، والتزم إيجاباً. بعد انتخابه، حوّل الوعد واقعاً وشيّدت برازيليا خلال خمس سنوات ودشنها قبل نهاية ولايته.
على رأس المشروع، كان المهندس المديني لوسيو كوستا المتأثر بـ«لو كوربوزييه» والفائز بمسابقة المخطط التوجيهي للمدينة، ومعه أشهر تلاميذه المهندس المعماري أوسكار نيماير، الذي شيّد أشهر مباني المدينة ومعالمها. الرجلان تقدميان ومنفتحان على العالم، وهما من روّاد الهندسة الحديثة. وبصمات هذا «الفكر» الهندسي دامغة في كل زاوية من المشروع الأصلي الذي قسّم المدينة إلى أحياء حسب وظائفها: السياسة، الاقتصاد، السكن وغيرها.
إحدى الشهادات التي تشير إلى أننا أمام حدث معماري هو ما قاله رائد الفضاء السوفياتي يوري غاغارين، الذي زار المدينة عام 1961. قال «لديّ انطباع بأني هبطت على كوكب آخر، لا على الأرض». وهذا ما كرسته الأونيسكو سريعاً عندما أعلنت المدينة القائمة داخل المخطط التوجيهي إرثاً ثقافياً للإنسان.
سنوات قليلة بعد التدشين، وقع انقلاب عسكري يميني في البرازيل حكم البلد على مدى ربع قرن، وقد وجد الانقلابيون في برازيليا، المدينة الموجودة في وسط البلد والبعيدة عن ضجيج المدن الكبيرة وضغط مجتمعاتها الأهلية، أداة مثلى لتأبيد سيطرتهم.
وبعد عودة الديموقراطية، لم يعد أحد اليوم يناقش صوابية نقل العاصمة التي فرضتها ضرورات الإنماء المتوازن في هذا البلد القارة. خلاصة القول إن إحدى معضلات نجاح المدينة أنها خططت لتستقبل 700 ألف شخص وصار يعيش فيها مليوني و700 ألف شخص.
ها هي برازيليا، تعمل كعاصمة سياسية خلال أربعة أيام ويعود محترفو السياسة إلى ولاياتهم في أواخر الأسبوع. أما الباقون، وأكثريتهم لم يولدوا فيها، فإن كانوا يعيشون داخل المخطط التوجيهي، لهم نوعية حياة أرقى من باقي مدن البرازيل. أما إذا كانوا يقطنون خارجه، فإنهم يعيشون حياة الضواحي البائسة.
إلى جانب الحدث السياسي اليومي والتحفة المعمارية التي تستقبل سنوياً أكثر من مليون سائح، صارت برازيليا مدينة تشبه المدن الأخرى. طبيعتها المزدوجة، عاصمة للبلد ومدينة لسكانها، أهّلتها لتكون سبّاقة أيضاً في أسوأ مظاهر المدن البرازيلية: وكر للفساد ورمز للتفاوت.