تطورات كثيرة حملتها الأشهر الماضية على مستوى الانقسام الداخلي الإيراني، لعل أبرزها عودة هاشمي رفسنجاني إلى كنف القيادة، ممثلة بالمرشد علي خامنئي، من دون ترويكا المعارضة، مير حسين موسوي ومحمد خاتمي ومهدي كروبي، الذين يسعون على ما يبدو إلى تسوية مؤقتة مع النظام بما يضمن استمراريتهم ويحفظ قاعدتهم بانتظار الانتخابات المقبلة
طهران ــ إيلي شلهوب
تعيش طهران هذه الأيام حالاً من الركود السياسي الداخلي. المعارضة تلتزم الصمت. تعيد حساباتها وتنظيم صفوفها التي غادرها الكثير من الكوادر. قادتها يبحثون عن تسوية مرحلية تضمن لهم استمراريتهم بانتظار المواجهة المقبلة. همهم الأساس إطلاق ما بقي من سجناء اعتقلوا على خلفية انتخابات الرئاسة الأخيرة، والتحضير للجولة الاقتراعية المقبلة. أما القاعدة، وهي في مكان آخر، فقد عادت أدراجها. عادت إلى حياتها اليومية، إلى اصطفافاتها التقليدية بانتظار ظرف مناسب تعيد من خلاله التعبير عن نفسها، ولو بصورة وإطار مختلفين.
في المقابل، يبدو النظام ملتزماً الحذر. يحرص على عدم عودة السجال الداخلي إلى الواجهة الإعلامية. يلعق جرحاً يظهر أنه عميقٌ. هي حكاية «خيانة» يقول إنه تعرض لها على أيدي رفاق الدرب وقادة الثورة. تنصبّ اهتماماته الداخلية الآن على تصفية حساب جولة خرج فيها منتصراً مخلّفاً وراءه «جثة هامدة».
لافتة هي الحساسية المفرطة التي لا يزال يثيرها الحديث عن تلك الأزمة اليوم. حساسية كهذه لدى المعارضة تبدو مفهومة؛ طرف مهزوم يخشى جبروت طرف منتصر يسعى إلى رضاه في الوقت الراهن. لكنها لدى أهل النظام مثيرة للتساؤل. الجواب يكمن في ثنايا السطور وبين طيات الكلمات. لقد كانت حقاً أزمة كادت تهدد الثورة كإرث والجمهورية كنموذج والقيادة كولاية والمقاومة كنهج. كادت تطيح العمق الاستراتيجي لما يُعرف بجبهة الممانعة، مع ما يستتبعه ذلك من تداعيات تغير وجه المنطقة. اللافتات التي رُفعت والمطالب التي أعلنت وقتها أبلغ تعبير عن ذلك: «إيران أولاً»، «لا للبنان ولا لغزة»، «لا لولاية الفقيه»، أو على الأقل تقييد صلاحياتها، «أين المليار دولار فارق الميزانية؟»...
أهل النظام يأخذون على قادة المعارضة، وهم من أبنائه، أنهم فتحوا الباب أمام «العالم كله لضرب إيران». يميّزون بين أطيافها: هناك من هو من أعمدة الثورة الذين أخطأوا التقدير لكنهم لم يخرجوا يوماً عن طاعة المرشد. وهناك من تعامل مع سفارات وأجهزة استخبارات أجنبية. وهناك من هو أصلاً ضد الثورة وضد كل ما ترمز إليه، وما دعمه لمير حسين موسوي إلا لغياب البديل.

عودة رفسنجاني

يتصدر الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني «ثغلب إيران»، الفريق الذي «أخطأ التقدير». أوساطه تؤكد أنه استعاد حظوته لدى مرشد الثورة علي خامنئي. تستشهد على ذلك بـ«تواصل الاجتماعات بينهما»، وبحقيقة أن الأخير كان يبادر دوماً إلى التدخل لإطلاق سراح أبناء رفسنجاني كلما اعتقلوا، وفي خطبة الجمعة التي ألقاها خامنئي في أعقاب انتخابات الرئاسة، نزّه رفسنجاني عن بقية قادة المعارضة، واصفاً إياه بأنه من أعمدة الثورة وبأنه ضحى بالكثير في سبيلها.
بل أكثر من ذلك. تقول الأوساط نفسها إن خامنئي «لا يزال يحبه وقد استعاد ثقته به». حديث عن نيات وخفايا نفوس لا يمكن التحقق من صحته. مصادر من عصب النظام تؤكد تواصل الاجتماعات، لكنها تطرح شكوكاً جدية في مسألة استعادة الثقة هذه. تقول إن «استمرار الود مرده إلى رفقة درب. إلى وصية من الإمام الخميني الذي قال ذات مرة إن الثورة ستبقى بخير ما دامت يدا خامنئي ورفسنجاني متشابكتين».
قادة المعارضة يسعون إلى تسوية مؤقتة تحفظ لهم قاعدتهم، فيما النظام يريد «تفريغهم من مضمونهم»
مصادر عليمة بالحياة الداخلية الإيرانية تؤكد وجود أسباب أخرى تدفع إلى معاملة رفسنجاني معاملة خاصة، في مقدمتها أنه «لا يزال يمتلك نفوذاً لا يستهان به داخل الأجهزة الرئيسة للدولة، كما يمثل فئة اجتماعية تمتلك الثروة والنفوذ، تجار البازار، الذين بدأت مصالحهم تفترق عن مصالح النظام، وفقاً للصورة التي قدمها (الرئيس محمود أحمدي) نجاد. هؤلاء يبحثون عن تهدئة مع الخارج. عن نقطة تلاقٍ مع الغرب». وتضيف أنه «يمثل أيضاً شريحة من رجال الدين التقليديين ممن بنوا نفوذاً على حساب الثورة، يبذلون ما أوتوا من جهد للحفاظ عليه»، مشيرة أن ذلك لا يعني «عدم وجود إمكانية لتحجيمه، لكن خطوة كهذه لها تكاليف باهظة، كما أن رفسنجاني نفسه لم يوفر الذريعة للقيام بخطوة كهذه، ذلك أنه التزم الصمت أول أيام الاضطرابات، ولما وجد أن الأمور تسير لغير مصلحته، خرج ليعلن تمسكه بعباءة خامنئي، تلك العباءة التي لم يخرج عن إطارها، على المستوى العلني، يوماً».
التزام كهذا تؤكده أوساط رفسنجاني نفسه، مستشهدة بجملته الدائمة عندما يُطلب منه القيام بأمر ما: «هذا يخالف رأي المرشد ولن أفعله». تقول إن «العلاقة بينه وبين خامنئي أعقد من أن يفهمها البعض. كل منهما يعرف الآخر جيداً. يعرف مسبقاً موقفه وردة فعله من كل أمر. علاقتهما تقوم على الفهم والتفهم المشترك لا التكاذب».
مقربون من رفسنجاني يقولون إنه بلغ مرحلة، خلال فترة الاضطرابات، كل ما كان يريده فيها هو ضمان وضع عائلته، ليس بمعناها الضيق بل الواسع. ومعروف عن رفسنجاني أنه ريفي العقلية يهتم كثيراً لشؤون العائلة، ويميل إلى رغبات المقربين منه.
مصادر مطلعة تتحدث عن أن هذه المرحلة بلغت ذروتها يوم طلب رفسنجاني عقد اجتماع لمجلس الخبراء، الذي يرأسه، في أوج فترة الاضطرابات. اجتماع أراده للبحث في صلاحيات المرشد وممارساته. حضره 44 من أصل 84 عضواً سرعان ما اكتشف رفسنجاني أن 12 فقط منهم معه، بعدما اعتبر الباقون أنهم تعرّضوا إلى «خديعة» وأنهم حضروا على اعتقاد منهم أن الاجتماع لبحث الاضطرابات وتداعيات انتخابات الرئاسة. ومعروف أن عزل المرشد بحاجة إلى موافقة ثلثي أعضاء هذا المجلس.
أوساط رفسنجاني، التي تؤكد أنه عاد إلى أحضان النظام، تضيف أنه يسعى جاهداً لأن يجلب معه القادة الثلاثة للمعارضة، أي مير حسين موسوي ومهدي كروبي ومحمد خاتمي. جواب النظام على هذا المسعى، بحسب الأوساط نفسها وأخرى شبه رسمية، كان الرفض لأسباب متعددة، في مقدمتها أن عودة كهذه ستربك مجموعة الرئيس محمود أحمدي نجاد.
هذه المجموعة تقول إنها تقبل بعودة رفسنجاني وحده تحت عنوان أنه لم يتورط مباشرة، كشخص، في الأزمة الأخيرة. تضيف أن خامنئي «يعتقد أن رفسنجاني أخطأ في التحليل والتقدير وأنه كان يريد مصلحة إيران ويجب أن يعود بعد أن يستغفر. ولذلك أوقف الهجمات الشخصية عليه، وأشاد به رمزاً للثورة».
مصادر إصلاحية مقربة من النظام تقول إن «رفسنجاني يعتبر أنه لم يغادر النظام وأن خلافاته كانت مع بعض قادته»، في إشارة إلى نجاد الذي اجتث الكثير من نفوذ عائلة رفسنجاني في إدارات الدولة بعد الهزيمة التي مُني بها أمامه في انتخابات 2005. وتضيف «يرى (رفسنجاني) رمز النظام القيادة الدينية الممثلة بخامنئي التي لم يقطع معها أبداً. هو لم يترك النظام، لم يخرج عن المألوف. لم يتجاوز الخطوط الحمر. لم يترك منذ البداية مجالاً للشك في دعمه لخامنئي الذي أوضح بدوره موقفه من رفسنجاني باعتباره أحد رموز الثورة التي يجب الحفاظ عليها». وتؤكد هذه المصادر أن «مشكلة رفسنجاني بأولاده، والعقلاء في إيران يعتبرونه رمزاً ودفع ثمناً كبيراً في سبيل ديموقراطية إيران».
أجواء كهذه لا تنسجم مع واقع استدعاء مهدي هامشي رفسنجاني، الموجود حالياً في لندن والذي قاد غرفة عمليات المعارضة في الانتخابات الأخيرة، للتحقيق في قضايا فساد. كذلك الأمر بالنسبة للتسريبات عن نيات بمحاكمة فائزة هاشمي رفسنجاني بتهمة قيادة تظاهرات للمعارضة في الاضطرابات نفسها. إلا إذا كان المطلوب توجيه رسالة لرفسنجاني الأب بأن العودة ستكون له وحده دون عائلته.

ترويكا المعارضة

المصادر الإصلاحية المقربة من النظام تؤكد أن القيادة الثلاثية للمعارضة «لا تزال متّحدة على الأهداف الاستراتيجية، لكنها منقسمة حول التكتيك». معادلة توضحها مصادر مطلعة بالتأكيد أن «خاتمي كان يرغب بمعارضة أكثر هدوءاً»، وقد «عارض الكثير من توجهات موسوي وكروبي اللذين تصرفا وكأنهما غير آبهين بأي شيء».
تقول أوساط رفسنجاني إن «خاتمي، الذي كان الأكثر إقلالاً في التصريحات وتصدير البيانات خلال الانتخابات، يرغب بالعودة». وتضيف أنه «طلب من رفسنجاني أن يقوده إلى تسوية. أما كروبي وموسوي فيبدو أنهما متشبثان في مواقفهما». وتوضح أن «خامنئي لم يعد يثق لا بموسوي ولا بخاتمي ولا بكروبي».
إحدى معضلات المعارضة هي تلك الهوة التي تفصل قيادتها عن قاعدتها. القيادة في واد والقاعدة في واد
وتقول المصادر الإصلاحية القريبة من النظام إن «المبدئيين (الأصوليين) يرون بعد ما جرى أن لا صلحية لهذه المجموعة (خاتمي وكروبي وموسوي). ليست منافساً محترماً». تضيف أن «المعارضة، في وقت من الأوقات، كانت عاجزة عن التراجع. لديها جماهير ملتزمة أمامها وتريد الحفاظ عليها. اليوم نشهد تراجعاً للمعارضة. رغبة في العودة. لكن رموز المعارضة يرون أنهم إذا أنكروا ماضيهم (ممارستهم وخطابهم في معركة الرئاسة) فسيخسرون قاعدتهم. يريدون العودة مع الحفاظ على قاعدتهم الشعبية. هم يراهنون على الزمن». وتؤكد المصادر نفسها أن «موسوي وخاتمي وكروبي تيار واحد، يتفقون على المبادئ العامة لكنهم يختلفون في التنفيذ. لا خلافات تهدد تحالفهم. يعتقدون أن مصلحتهم بإعادة الحياة للتيار الإصلاحي»، مشيرة إلى أن «النظام يشترط على هؤلاء التوبة العلنية للعودة».
يبدو واضحاً أن النظام يريد احتواء هؤلاء وإعادتهم إلى أحضانه، ولكن بعد أن «يفرغهم من مضمونهم، من قاعدتهم»، بحسب مصادر وثيقة الاطلاع تقول إن «رموز المعارضة يعترفون باستغلال الخارج تحركاتهم لغايات تستهدف تقويض النظام الذي تتهمهم أجهزته بأنهم من فتح الباب للتدخل الغربي عن وعي وإدراك ووفق مبدأ: أنتم قدّمتم خدماتكم».
ويبدو أن قادة المعارضة باشروا الاستعداد لخوض الاستحقاق الانتخابي المقبل، أي الانتخابات العامة في 2011. استحقاق «سيكون مناسبة لعودة التيارات المؤثرة إلى الساحة، وسيظهر مقبولية أطراف المعارضة لدى الناس»، بحسب المصادر نفسها التي تؤكد أن «ثلاثي القيادة يستعد لما بعد نجاد»، مشيرة إلى أنهم «يعملون على تحضير حفيد الخميني، حسن الخميني (37 عاماً)، لخوض انتخابات الرئاسة».
لكن العالمين بشؤون النظام وشجونه يؤكدون أن الخميني الحفيد سعى منذ اليوم الأول إلى تحييد نفسه عن المعارضة، وأنه «إن كان يمكن أن يُحضَّر لشيء، فهو لأن يكون مرشداً». ويضيفون أن «الأصوليين يأخذون عليه أنه لم يكن حاضراً في المعركة معهم. اليوم بدأ يخرج إلى العلن في مناسبات، لكن بهدوء».
المصادر الإصلاحية القريبة من النظام ترى أن «إحدى معضلات المعارضة هي تلك الهوة التي تفصل قيادتها عن قاعدتها. القيادة في واد والقاعدة في واد. هناك في القاعدة من يعمل تحت عباءة النظام، وقد صوّت لموسوي نكاية بنجاد. هؤلاء سرعان ما تخلوا عن موسوي مع إعلان المرشد تأييده نجاد. أما من يعارض من خارج النظام فهو أصلاً يعتبر موسوي من الطينة نفسها لحكام الثورة، وبالتالي أيده فقط تحت عنوان أنه لا بديل آخر».
وتضيف هذه المصادر أن «القاعدة الإصلاحية محبطة على غرار ما كانت عليه في نهاية ولاية خاتمي، الذي رأت أنه فشل في تحقيق وعوده لها، ويوم خسر مرشحها، رفسنجاني، في الانتخابات الرئاسية لمصلحة نجاد» عام 2005، مشيرة إلى أن «الوضع السياسي رهن تحقيق حكومة نجاد وعودها. معروف أن نجاد نجح من خلال حكومته السابقة في التركيز على المحافظات والمناطق النائية وفشل في التنمية الشاملة».
ولا بد من الإشارة إلى أن واقع وجود قادة المعارضة خارج السلطة لا يعني أنهم معدومو التأثير داخلها. وتقول مصادر واسعة الاطلاع إنه «على سبيل المثال، نجاد اعترف بنفسه في مناظرة تلفزيونية مع كروبي بأن هذا الأخير يمتلك من النفوذ داخل السلطة القضائية أكبر من نفوذ نجاد نفسه. كذلك لا يزال لرفسنجاني مؤيدون من داخل عصب النظام، أي في الحرس (الثوري) والأمن».
وتؤكد المصادر نفسها أن المعارضة في إيران «تتجاوز ثلث الشعب الإيراني، بالحد الأدنى، على ما أظهرت نتائج الانتخابات الأخيرة، رغم ما شابها من ملابسات». تضيف أن «هذه الكتلة هلامية، تزيد أو تقل بحسب الظرف والسياق والشخصيات المعنية. الثابت منها ذلك المعارض للنظام ككل، لمفهوم الجمهورية الإسلامية. المتحرك هو تلك الشريحة المعارضة من داخل النظام وهي نوعان: معارضة تلتزم خط الخميني ولكنها تفسره بطريقة مختلفة. تختلف حول مفهوم الولاية ونطاقها وصلاحياتها، أو أن مصالحها تتعارض والسياسات التي تتبعها في الداخل والخارج. وأخرى تلتزم خط خامنئي لكنها تختلف مع بعض بطانته. أو أنها غير راضية عن حصتها من السلطة والنفوذ».


ثورة نساء!

كان لافتاً في خلال «الثورة الخضراء»، مدى الدور الذي أدته النساء فيها، على مستوى القيادة، وعلى مستوى القاعدة.
لعل أبرز زعيمات المعارضة زوجة مير حسين موسوي، زهرة راهناورد، التي دفع حضورها الطاغي في انتخابات الرئاسة إلى الاعتقاد بأنها المرشحة الفعلية وبأن موسوي ليس سوى ممثل لها. اعتقاد تعزز يوم الاقتراع عندما أدلت بصوتها قبل زوجها، خلافاً للعرف القائل بإدلاء المرشح بصوته على أن تلحق به زوجته.
تليها من حيث الأهمية فايزة هاشمي رفسنجاني، التي نزلت الشارع وقادت التظاهرات بنفسها وتعرّضت للاعتقال.
هناك أيضاً حفيدة الخميني زهراء إشراقي، زوجة محمد رضا خاتمي، التي تعرضت للاعتقال (وزوجها) مرات عديدة. وخاضت إشراقي، التي ترأس «جمعية الدفاع عن المرأة الإيرانية»، معركة موسوي تحت عنوان أن «فوز أحمدي نجاد بفترة رئاسة ثانية سيؤثر سلباً بالتأكيد على المرأة وسعيها للمساواة».
أما على مستوى القاعدة، فكان لافتاً تصدر النساء التظاهرات، وتوليهن مهمة الاحتكاك مع قوات الأمن خلال الصدامات، ما أربك هذه الأخيرة.