خلاف لغوي يُخفي انقساماً دينيّاً وعرقيّاًبروكسل ــ بسّام الطيارة
يحاول ملك بلجيكا، عبر مشاوراته مع قادة الأحزاب والقوى السياسية المختلفة، إيجاد وسيلة للخروج من الأزمة الحالية التي تشهدها البلاد، التي جاءت نتيجة لاستقالة حكومة إيف لوتيرم بسبب انسحاب الحزب الليبرالي الفلاماني من الائتلاف الحكومي.
وقد عزا الحزب انسحابه إلى صعوبة إيجاد تسوية للنزاع بين الفلامان والفرانكوفون بشأن المنطقة الانتخابية «بروكسل هلال فيلفورد» المختلطة اللغة. ويريد الفلمنكيون إعادة النظر في الحقوق اللغوية الخاصة الممنوحة منذ الستينيات لنحو مئة ألف فرنكوفوني يعيشون في ضاحية بروكسل التابعة لمنطقتهم، أي فلاندر، وذلك «باسم وحدة أراضينا ولغتنا».
وبعدما التقى الملك بيير الثاني في المرحلة الأولى بكل من رئيس الحكومة المستقيلة، ورئيسي مجلسي النواب والشيوخ، وبعدها زعيم الحزب الليبرالي الفلاماني ألكسندر ديكرو، عاد والتقى برؤساء أحزاب الديموقراطي الإنساني، والاشتراكي الوالوني، والخضر، والديموقراطي الفلاماني، قبل أن يكلف وزير المالية ديدييه ريندرز مهمة إعادة تأليف حكومة تحت شعار «إيجاد الشروط» المناسبة لاستئناف المفاوضات بشأن المشاكل الدستورية التي تواجهها البلاد، وخصوصاً مشاكل الحقوق اللغوية للفرنكوفونيين في ضاحية بروكسل الفلمندية، التي كانت سبب تفجّر الوضع الحكومي.
فقد تزايدت صلابة الحواجز اللغوية التي تقسم البلاد، ولم يعد الفرانكوفونيون، الذين لا يتحدثون الفلامنية، مرحباً بهم في منطقة الفلامن، والأحزاب السياسية المقسمة تزيد من قسمة البلاد إلى مجموعتين مختلفتين تعيشان في بلدين مختلفين. وتطالب المنطقة الشمالية الفلامنية بمزيد من السلطات الذاتية وبتخفيف تحمّل مسؤوليات ضمن الأطر الفدرالية للبلاد. وبحسب استطلاع للرأي، فإن نحو ٤٠ في المئة من الناخبين الفلامانيين يدعمون الأحزاب المؤيدة للانفصال، بينما يسعى الباقون إلى نموذج «كونفدرالي» يخفف من التزاماتهم المالية تجاه بقية أجزاء البلاد التي تتكلم الفرنسية.
وبالفعل تقفز الخلافات المتعلقة باللغتين الفرنسية والفلامانية إلى الواجهة كلما حدثت أزمة حكومية في «بلاد الجعة». وتبدو «مسألة اللغة» كأنها نقطة خلاف أساسية يمكن أن تفضي إلى انحلال مفاصل دولة قائمة، بينما هي في الواقع نقطة تضافر لخلافات أوسع وأعمق تكاد تستحوذ على معظم نقاط الخلاف الأساسية، مثل التمايز الديني والعرقي وتفاوت المستوى الاقتصادي والتوزيع العادل للثروات، وهي نقاط نزاع تعود إلى عهد تأسيس المملكة البلجيكية، تضاف إليها مسألة الهجرة.
ورغم أن بلجيكا بشقيها مشهورة بانفتاحها، إلا أن تفاقم العامل الديني وزيادة نسبة الذين يدخلون الإسلام بين صفوف مواطنيها، إضافة إلى ازدياد أعداد المهاجرين، زادت من حدة المواجهات، التي وإن هي تبرز تحت عنوان «لغوي»، فهي تعود إلى ما قبل بداية تاريخ بلجيكا الحديث الذي تؤرخه الكتب في عام ١٩٣٠، وهو تاريخ حمل بذور نزاعات اليوم.
في شمال بلجيكا تسكن مجموعات ترتبط عرقياً ودينياً وتاريخياً بـ«الكتلة الأنكلوساكسونية» ذات التوجه الكالفيني البروتستانتي، بينما تسكن الجنوب مجموعات ترتبط تاريخياً وحضارياً بفرنسا التي تتقاسم معها الحدود، وهي بالتالي كاثوليكية الديانة لاتينية المشرب.
وفي سياق «تصفية» تركة الحروب النابوليونية، دُمجت مناطق في شمال فرنسا تنطق باللغة الفرنسية مع مناطق في جنوب الأراضي المنخفضة، وهو الاسم القديم لهولندا، مع احتفاظ كل مجموعة بلغتها وعاداتها ودينها.
وكان الجنوب في بداية القرن التاسع عشر «صناعياً» يعتمد بقوة على استغلال المناجم ومعامل النسيج والمصانع المتعددة، بينما الاعتماد الأول لدى الشمال كان التجارة والتعامل المصرفي. وقد تركت الحروب والنزاعات الدينية السابقة عوامل تفرقة في المملكة الجديدة، إلا أن الانطلاق في «المغامرة الاستعمارية»، التي جلبت الثروة للبلاد، غطى على الفرقة والتمايز.
لكن بعد انتهاء الفترة الاستعمارية، كان على بلجيكا أن تستقبل «أبناء مستعمراتها». وبالطبع، فإن هؤلاء جميعهم من مناطق فرانكوفونية، إضافة إلى فتحها أبواب هجرة أبناء المغرب العربي الذين أتوا من شمال فرنسا.
ومنذ بدأت الحالة الاقتصادية بالتراجع، وخصوصاً بعد إقفال المناجم والمصانع في المناطق الفرنسية الوالونية من دون أن تتأثر المناطق الشمالية المنفتحة على التجارة وصناعة المال، بدأ الجانب الفلمندي بالاحتجاج على «استفادة الفرنسيين من المساعدات الاجتماعية»، في إشارة إلى تعويضات العطالة التي يستفيد منها المهاجرون المتجمعون في المناطق الفرانكوفونية. وكانت آخر هذه الحالات المطالبة بالتصويت لإنهاء الامتيازات الفرنكوفونية في إحدى المناطق الفلامندية. وأمام رفض الوالونيين هذا، هدد الفلامانيون بالمضي أحادياً في التصويت لإنهائها، وهو ما سعى الملك إلى وقفه بتدخل مباشر بانتظار تأليف حكومة جديدة. ووصفت صحيفة «ليبر بلجيك»، الصادرة يوم السبت، ما حصل بـ«المبادرة العنيفة من الفلامينين»، بينما عنونت صحف أخرى بـ«الوداع بلجيكا».
ويفتح هذا الباب واسعاً أمام أزمة أوروبية، إذ إن أوروبا تستعد لتسليم الرئاسة لبلجيكا في الشهر السادس، بينما يرى الفلامانيون والبعض من الوالونيين الفرانكوفونيين أن الحل هو في «هوية مناطقية أوروبية»، مثل الكورسيكيين في فرنسا والباسك في إسبانيا، أي هوية تحفظهم داخل أوروبا وتعتقهم من رباط بلجيكا الموحدة.


النزاع مع الغريبفي بلجيكا، مثلما هو الأمر في الهند وفي إيرلندا وفي نيجيريا وفي مصر وفي سريلانكا وحتى في الولايات المتحدة مع المحافظين الجدد، بات الربط بين الرخاء الاقتصادي والنزاع مع «الآخر» من مقومات السياسة القائمة على التمايز مع «الغريب».