تخرج من أحد المطاعم المقابلة لساحة البورصة في بروكسل، فتفاجئك أصوات قليلة، لكن قويّة، صادرة من أفواه عشراتٍ ملتفّين بالعلم الفلسطيني. كانوا قلّة ولكن...
بروكسل ــ أرنست خوري
كانوا بضع عشرات فقط يقفون خلف «لوحاتهم» المؤلّفة من صور المجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين في غزة وجنين، على درج المبنى التاريخي للبورصة عند المدخل الجنوبي لـ«الساحة الكبيرة» الأشهر من أن تُعرَّف في عاصمة الاتحاد الأوروبي بروكسل. كل منهم حمل ما اختاره: هذا علم فلسطيني «يختصر القضية». وهذه لافتة كتب عليها «أوقفوا مساعدتكم لإسرائيل فوراً». تلك ارتأت أنّ أكثر ما يؤثّر في مشاعر البلجيكيين هو الصورة الملحمية الشهيرة لتلك الشهيدة الفلسطينية التي شوّهتها صواريخ الاحتلال وهي بثياب النوم.
إنهم مجموعة من الفلسطينيين والعرب والبلجيكيين الشيوعيين. ينظّمون اعتصامهم بصورة دوريّة باسم «الجاليات العربية في بلجيكا»، «علّنا نكسب بلجيكياً أو اثنين إلى صفّنا»، على حد تعبير أحدهم.
محجّبات وسافرات الرأس. شابّان اثنان يرتديان الجلباب الإسلامي، مع قصّة شعر «غير إسلامية» البتّة. رجلان في منتصف العمر، أحدهما مقاتل سابق في صفوف المقاومة الفلسطينية، أُبعد إلى بروكسل، فبات نشاطه يقتصر على المشاركة في الاعتصامات المماثلة، وعلى ممارسة هوايته المفضّلة: شتمٌ، باللهجة الفلسطينية، لمواطن التقاه في بلجيكا «يخون القضية»، فأبلغه أن «فلسطين منك براء» يا...
وبما أنّك في زيارة عمل في بروكسل، وأتيتَ من دون عدّة الاعتصامات والتظاهرات، تجد نفسك تشتري عفوياً ما تيسّر من علم فلسطيني وكوفية، وتردّد شعارات الهاتفين بالفرنسية: «قاطعوا إسرائيل، إنها دولة مجرمة». «صفر للجامعة العربية، صفر للاتحاد الأوروبي». «مصر العميلة، أوقفي البناء» (الجدار على الحدود مع غزة). «الحل الوحيد إنهاء الاحتلال». هذا طبعاً إلى جانب شعار الزمن الجميل الذي كان يلفّ العالم «المقاومة حتى الانتصار».
بين الجمع، الذي دام ساعة ونصف ساعة، تتسلّل امرأة خمسينية، وتبدأ بالهتاف على حسابها في وسط الشارع. لا تفهم ما تقوله. تقترب منها فتيات الاعتصام بتهذيب لمعرفة سرّها، فيلحق بهنّ أحد منظّمي الاعتصام، ليطلب منهنّ تركها وشأنها، إذ إنها مؤيّدة لإسرائيل وتأتي في كل مرة لتحاول إفساد الاعتصام، لكن من دون نجاح كبير، أولاً لأنها «بسيطة عقلياً»، وثانياً لأنّ صوتها منخفض إلى درجة أن على المارّ الالتصاق بها ليفهم مغزى هتافها.
إنها بلجيكية «لا تحبّنا»، لكن لا داعي لإعارتها أي انتباه، فهناك بلجيكيون كثر يحبّوننا، مثّلهم خمسة أشخاص شاركوا في اعتصام يوم الجمعة. «عميدهم» وصل عند الرابعة والنصف من بعد الظهر، موعد الاعتصام. هو شيوعي سبعيني «لا يشعر بأي ذنب لكون بلاده صامتة عن الجرائم الصهيونية، بما أنّه لا يعتبر أن أياً من الحكومات الغربية تمثّله». على كل حال، لا يملك الرفيق الكثير من الوقت ليضيّعه على الثرثرة، فالشباب بحاجة إلى صوته.
صحيح أنّ المشاركين في الاعتصام كانوا أقل من مئة، إلا أنّ الصحيح أيضاً أنهم استدعوا اهتمام المئات من المارة، لكون الشارع من بين الأكثر ازدحاماً في المدينة الجميلة. زميل العجوز البلجيكي، يساري آخر، يذكّرك مظهره الخارجي بالصورة النمطية لفوضويّي الستينيات: شعر أبيض يتدلّى على كتفيه. لا يتوقف عن نفخ سجائره «اللف»، على ظهره حديدتان موصولتان بحقيبته، علّق عليهما كل ما يحتاج إليه: شعاراته، ومكبّر الصوت الخاص به، وعلم فلسطين طبعاً.
تزداد وتيرة المطر، لكنها تبقى زخّات خفيفة لا تثير القلق. لا يقل عديد الجمع ولا يزيد. تشرب ضيافة الاعتصام: شاي ساخن في ظل حرارة قاربت الصفر، لتسمع أحدهم يطلب من الجمهور الاستماع إليه: شكراً لحضوركم. انتهينا لهذا اليوم لأنها الساعة السادسة. وكما تعلمون، السلطات أذنت لنا بالاعتصام بين الساعة الرابعة والنصف والسادسة».
توقّع عريضة المعتصمين التي تدعو السلطات البلجيكية إلى قطع علاقاتها مع الدولة العبرية. تفكّر للحظة بسؤال عبثي: ماذا لو أن هناك سفارة فلسطينية بدل تلك الإسرائيلية في بروكسل؟ فهل ستكون سفارة حمساوية أم فتحاوية؟ الأكيد أنّ كثراً ممن شاركوا في اعتصام الساعة ونصف ساعة يفضلون أن تكون شيئاً ثالثاً، ربما ينتمي إلى زمن ما قبل أن تصاب السلطة الفلسطينية بلوثة المفاوضات.