معاهدة لشبونة زادت تعقيد الآليّات والنتيجة مزيد من التبعيّة لواشنطنبروكسل ــ أرنست خوري
كلّما بدأ الحديث عن لبنان، كانت علامات القلق والتململ والحيرة ترتسم على وجوه مسؤولي المفوضية الأوروبية في ورشة عمل «سياسة الجوار الأوروبية»، التي نُظّمَت في العاصمة البلجيكية بروكسل، بين الأول من آذار الجاري والخامس منه، بمشاركة 25 صحافياً من الجزائر والمغرب وتونس ولبنان.
يقولون لك إنّ كل أزمات المنطقة تُحسَم في لبنان، مع اعترف ضمني بأن لا حيلة للأوروبيين في قضاياه المصيرية: إسرائيل واللاجئون الفلسطينيون، وعلاقات هذا البلد مع محيطه، وعدم استقرار نظامه السياسي، ووضعه الاقتصادي وسلاح مقاومته، وموقعه المستقبلي على الخريطة الإقليمية.
يعترفون بأنّ أزماته شديدة لدرجة أنّه يمكن تصنيفها في خانة العقد العالمية التي لا تحلّها إلا «السياسة الكبيرة». مصطلح استحدثه أحد الموظفين الرفيعي المستوى في المفوضية الأوروبية، عند سؤاله عن الدور الذي يمكن أن يؤدّيه الاتحاد الأوروبي في الأزمة النووية الإيرانية. لم يصدر عنه سوى اعتراف بأنّه ليس هناك سياسة خارجية أوروبية متناسقة بعد، بما أنّه عندما يتعلق الأمر بالشؤون «الكبيرة» كإيران ولبنان مثلاً، يعود القرار إلى الدول لا إلى أجهزة الاتحاد.
هنا يستدرك أحد المراقبين بقليل من البراءة: أكانت الأزمات صغيرة أم كبيرة، هل هناك أصلاً مرجع أوروبي واحد يمكن مراجعته إذا طرأ طارئ لا يحتمل سنوات من الاجتماعات والبيروقراطية والتسويات وجوائز الترضية والمناكفات التي تشوب علاقات الأقطاب الثلاثة للاتحاد (فرنسا وبريطانيا وألمانيا)؟ ثمّ عن أيّ سياسة أوروبية موحّدة نتحدث، وحكّام باريس ولندن وبرلين «لا يكفّون عن وضع العراقيل المتبادلة»، على حد تعبير أحد الصحافيين المتمرّسين في شؤون الاتحاد الأوروبي؟
سؤال مطروح منذ وُلدت فكرة الاتحاد في روما قبل نحو نصف قرن، ولا يزال من دون جواب حتى الساعة. معضلة اختصرها هنري كيسنجر بكاريكاتورية صارت لازمة سياسية ساخرة: بمَن أتّصل لو رغبتُ (كوزير للخارجية الأميركية) في التحدث إلى أوروبا؟ واليوم، يصبح السؤال على الشكل الآتي: إذا قرّرت إسرائيل شنّ اعتداء جديد على لبنان أو غزة أو حتى إيران، بمَن يجدر الاتصال؟ مَن سيحمل لواء دبلوماسية الاتحاد الأوروبي للحؤول دون وقوع حرب أو لاحتوائها؟ الرئاسة الدورية للاتحاد (إسبانيا حالياً)؟ أم رئيس المجلس الأوروبي هرمان فان رومبي؟ أم رئيس المفوضية الأوروبية خوسي مانويل باروزو؟ أم أخيراً الممثلة الأعلى للسياسة الأمنية والخارجية، نائبة رئيس المفوضية الأوروبية، البارونة البريطانية كاثرين آشتون؟
كيف تكون أوروبا «موجودة سياسياً»، على حدّ تعبير المفكر الماركسي سمير أمين، إذا كان لها 4 رؤساء؟ ربما لهذا السبب لن يجد الرئيس الأميركي باراك أوباما حاجة ماسّة إلى المشاركة شخصياً في قمة أميركا ـــــ أوروبا المقررة في نهاية نيسان المقبل في إسبانيا. وكأنّ أوباما، من خلال عدم مشاركته في القمة المقبلة، يقول للأوروبيين ما مفاده: اتفقوا في ما بينكم على شخص واحد أفاوضه ويفاوضني، وأبلغوني اسمه ورقم هاتفه، وإلى اللقاء إلى حينها.
لكن قد يكون اتحاد أصبح بأربعة رؤوس بدل اثنين تطبيقاً لمعاهدة لشبونة، هو كل ما يتمنّاه أوباما، إذ إن هذا يزيد من ضعف أوروبا ويجعلها «غير موجودة سياسياً» أكثر. صحيح أنه يسبّب للإمبراطورية الأميركية أوجاع رأس غير مطلوبة حين تكون بحاجة إلى حلفاء أشداء، كما حصل في غزو العراق مثلاً، إلا أنّ هناك دائماً مخارج كلفتها أقل من كلفة أن يكون لأوروبا سياسة خارجية موحّدة.
مخارج من نوع مشاركة منفردة لبريطانيا، «حصان طروادة» الأميركي في أوروبا، في احتلال بلاد الرافدين، بينما جاءت معارضة الآخرين أشبه بديكور ديموقراطي تعدّدي لعصر الأحادية القطبية، كانت واشنطن بأمسّ الحاجة إليه.
مثال آخر معبّر عن الإبداع في نفي وجود الاتحاد الأوروبي عند الحاجة إليه، هو «اختراع» لجنة الخمسة زائداً واحداً التي تفاوض طهران: تضمّ فرنسا وبريطانيا وألمانيا (وروسيا والصين والولايات المتحدة)، لكن بصفات وطنية لا علاقة لها بالاتحاد الأوروبي.
اتحاد بأربعة رؤوس يزعج موظّفي الاتحاد قبل أن يغيظ من يرى أن وجود أوروبا قوية سياسياً حاجة ماسة إلى كسر الهيمنة الأميركية. ولأنه «وقت الامتحان، يُكرم المرء أو يُهان»، أُهين الاتحاد وسقط في قضية يرى كثر أنه كان قادراً على فرض وجوده فيها بمجرد زيارة: كارثة هايتي. لم يزُر رأس واحد من الرؤوس الأربعة الجزيرة المنكوبة التي «تحوّلت إلى ما يُشبه مستعمرة أميركية جديدة».

سؤال كيسنجر «بمَن عليّ الاتصال للتكلم مع أوروبا؟» لا يزال حاضراً: أوباما يغيب عن قمّة إسبانيا
مَن كان يجب أن يزور هايتي؟ اللايدي آشتون أولاً، يجيب مسؤولون أوروبيّون. لكن البارونة البريطانية مشغولة بتأليف فريق عملها للسياسة الخارجية. كأنها نسيت أن الفريق يجب أن يكون أوروبياً، فسارت في مشروع إبعاد الجميع إلّا البريطانيين. كلام «خطير» تتداوله أوساط أوروبية منذ فترة، وفجّرته صحيفة «الغارديان» البريطانية يوم الاثنين 5 آذار عندما نقلت الامتعاض الشديد للفرنسيين والألمان إزاء سلوك آشتون، التي قلّ ما سُمع تصريح لها منذ تعيينها في منصبها الجديد، والتي «فشلت في جميع المراكز التي شغلتها».
ورغم كل ذلك، هناك في عاصمة أوروبا، بروكسل، مسؤولون رفيعو المستوى يرون أنّ «أجمل ما في الاتحاد الأوروبي هو عدم وجود مصدر مسؤول وحيد يمكن مراجعته». حتى إنّ موظفاً «كبيراً» رأى من دون تردّد أنّ «اندلاع كارثة (كزلزال هايتي مثلاً) قد يكون دافعاً ليدرك الاتحاد الحاجة إلى سرعة التحرك».
هكذا هي أوروبا. مشروع حضاري حالِم. لا تنقص دوله الأموال ولا القوة العسكرية ولا الباع الطويل في السياسة الخارجية. ورغم ذلك، ينقصها كل شيء. تنقصها الإرادة أولاً. إرادة أن تكون قوة عظمى مستقلة عن القطار الأميركي. ينقصها أن تتخلى عن دورها في تزويد الولايات المتحدة بالاستثمارات والسيولة في إطار تقسيم العمل والأدوار في داخل «الإمبريالية الثلاثية» التي تجمعها مع اليابان ومع الولايات المتحدة. والكلام لسمير أمين مجدداً.