لا تلبث الصراعات الأهلية في أفريقيا أن تهدأ، لتعود وتشتعل جبهات الخلاف بين الأطراف المتنازعة. هذا الصراع يرتدي في كل مرة ثوباً جديداً، فيتنقل من الطائفي إلى الإثني، إلى الأراضي أو الثروات. لكن تبقى نتيجته معروفة، فعدد كبير من الضحايا الأبرياء يكتفى بإحصائهم ويجري تناسيهم بعد فترة ليعود عداد القتلى لينطلق من جديد عندما يبدأ صراع آخر
حبيب الياس
الصراع الطائفي الأخير في نيجيريا، الذي أوقع أكثر من ألف قتيل خلال شهر ونيّف، حمل صفة الصراع بين المسلمين والمسيحيين. غير أن بواطنه مرتبطة بالصراعات الإثنية الكثيرة من القارة السمراء، والخلافات على توزيع الثروات والأراضي، التي أدى الاستعمار الأوروبي، ولا يزال، لكن بشكل آخر، دوراً أساسيّاً في إثارتها.
الصراع النيجيري بين رعاة ومزارعين، صادف أنهم مقسّمون بين مسلمين ومسيحيين، لكن جذوره مرتبطة بطبيعة تقسيم الدولة، التي هي بحد ذاتها من أكبر المشاكل الموجودة. تقسيم هو مثال بسيط على ما تمر به الدول الأفريقية، التي بُنيت بناءً اصطناعياً يتنافى مع الإرادة الفعلية لشعوبها، التي وضعت تحت عقود من الاستعمار، الذي إن زال ظاهرياً، فهو مستمر بأساليب خفية.
تطل الصراعات في أفريقيا، كل مرة، لتذكر بهشاشة الأنظمة في القارة السمراء، التي لا يزال حتى اليوم ينظر إلى الحدود بين دولها على أنها خطوط وهمية، «خطوط الاستعمار» التي إن اتفق الجميع على إبقائها منعاً لإنهيار القارة، إلا أنها تختلف عن الحدود الحقيقية، «حدود القبائل» التي تحاول أن تستعيد ما سُلخ منها. قارة سمراء سقت أرضها دماء شعوب عاشت مهجرة في بلادها، إنها لعنة الأراضي الأفريقية الغنية بالثروات الطبيعية.
وفي إضاءة على أبرز الصراعات الدموية التي اجتاحت القارة، يلاحظ الارتباط العميق بين المصالح الاستعمارية سابقاً والمصالح الاستثمارية والأجنبية حالياً بمدى تطور النزاعات في عدد من الدول.
وتميّزت العوامل المؤدية إلى اندلاع الحروب والصراعات الأهلية في أفريقيا بالتعقيد الشديد المتصل بالبيئة الداخلية للمجتمعات الأفريقية، بالإضافة إلى العوامل ذات الصلة بالبيئة الخارجية. فظاهرة الحروب الأهلية في المجتمعات الأفريقية هي في واقع الأمر عوامل متداخلة يصعب الفصل بينها.
تتميز المجتمعات الأفريقية بأشكال وأنماط متعددة، سواء كانت إثنية أو لغوية أو دينية، إلا أن العامل الإثني يبقى الأهم من بين أنماط التعدديات الموجودة والسائدة في المجتمعات الأفريقية.
وعلى الرغم من أن التعددية الإثنية أمر أصيل في واقع المجتمعات الأفريقية، إلا أن السياسات الاستعمارية أسهمت في زيادة حدتها إلى الدرجة التي أصبحت أحد أهم أسباب الحروب والصراعات الأهلية في القارة.
بذور الحروب الأهلية زرعت في الأساس من خلال النشأة المصطنعة للدول الأفريقية عبر السياسات الاستعمارية. فتقسيم القارة الذي جرى في مؤتمر برلين 1884ـــــ1885 جاء متناسقاً فقط مع مصالح المستعمرين واتجاهاتهم للتوسع، ومتناقضاً مع الواقع الاجتماعي والإثني للمجتمعات الأفريقية. إذ وُضعت القواعد العامة لتأسيس مناطق الهيمنة للقوى الأوروبية الرئيسية (بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وألمانيا). وصورت هذه القوى مهمتها على أنها تهدف إلى نشر الحضارة والمدنية في كل مناطق العالم المتخلف، ومنها أفريقيا. إلا أن هذا الاستعمار كان السبب الحقيقي لتخلف القارة، حيث استنزف مواردها الطبيعية ووجهها لخدمة الاقتصاد الأوروبي. فكما يصفها أحد رجال الدين الأفارقة، «وصل الاوروبيون إلى أفريقيا من طريق المبشرين، وكانوا يملكون الإنجيل. أما نحن فكنا نملك الأرض، فقالوا لنا أغمضوا أعينكم لنصلي وعندما فتحنا أعيننا كنا نملك الإنجيل وهم كانوا يملكون الأرض».
كذلك أفرز هذا التقسيم الاصطناعي وضعين مثّلا في ما بعد الأساس للبعد الإثني في الحروب الأهلية الأفريقية. فمن ناحية، جمعت الخريطة الاستعمارية داخل الدولة الواحدة جماعات لم يسبق لها العيش معاً، ولم يسبق لها تفاعل بعضها مع بعض في إطار واحد. من ناحية أخرى، فصلت الحدود السياسية المصطنعة التواصل بين جماعات عرقية واحدة وجدت نفسها فجأة تابعة لكيانات سياسية مختلفة، وهو وضع شائع الحدوث في العديد من أنحاء القارة، كما هو حاصل في كل من بوروندي وأنغولا ورواندا والكونغو الديموقراطية.
إلا أن التقسيم التعسفي للقارة لم يكن هو الأثر الوحيد للاستعمار الأوروبي، الذي أدى دوراً في تغذية التناقضات الإثنية من خلال سياسة «فرِّقْ تسدْ»، أو من خلال تفضيل جماعات إثنية معينة على غيرها، وإعطائها نصيباً أكبر في الحكم والسلطة. ففي أوغندا ـــــ على سبيل المثال ـــــ فضلت الإدارة الاستعمارية قبيلة البوغندا على باقي الجماعات الإثنية الأخرى، وأُطلق اسمها على الدولة ككل. هذا الوضع المميز أدى إلى صعوبات جمة في مرحلة ما بعد الاستقلال، إذ طالبت البوغندا بإقامة دولة منفصلة تتمتع فيها بالنفوذ، خوفاً من أن يؤدي الاستقلال إلى فقدانها للامتيازات التي حصلت عليها إبان الاستعمار.
وفي رواندا، التي راح أكثر من مليون شخص ضحية الصراع الإثني فيها، عمل المستعمرون على إضفاء ظلال عنصرية على الإثنية من خلال تأكيد اختلاف الأصول «العنصرية» للجماعات الرواندية، وأن بعضها يتمتع بالتفوق العنصري إزاء الجماعات الأخرى.
وفي السودان، أدى الاستعمار دوراً مختلفاً، وإن كان قد أدى إلى النتيجة نفسها. فقد قسمت الإدارة الاستعمارية السودان خلال فترة احتلاله إلى جزأين، واتبعت في كل منهما سياسة مختلفة. في الشمال، كانت السياسة البريطانية تسمح بتطوير هوية قومية تتركز على الأنصار والختمية. وفي الجنوب، اتبعت بريطانيا سياسة الحكم غير المباشر، وحظرت اللغة العربية، وحالت دون نفاذ التأثيرات العربية الإسلامية. وسمحت للبعثات التبشيرية، التي تُطرد من الشمال، بالعمل في الجنوب.
ومع حصول الدول الأفريقية على استقلالها، لم ينته دور القوى الكبرى، بل أخذ أشكالاً وصوراً جديدة، وبدأ ينظر إلى الحروب بوصفها إحدى أدوات تحقيق أهدافه.
وتجدر الإشارة إلى أن القارة الأفريقية، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، شهدت ثلاث موجات من الحروب والصراعات الأهلية. الموجة الأولى كانت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتمثلت في حروب حركات التحرير من القوى الاستعمارية. وامتدت حتى منتصف سبعينيات القرن الماضي. الموجة الثانية شملت ظهور عدد قليل من الصراعات بين الدول الأفريقية، فضلاً عن صراعات وحروب أهلية على نطاق واسع. الموجة الثالثة بدأت مع انتهاء الحرب الباردة، واتسمت الصراعات في هذه المرحلة بأنها في معظمها صراعات أهلية؛ إذ أصبحت الحروب الأهلية النمط الأكثر شيوعاً في القارة الأفريقية بين أنماط الصراع الأخرى.
ومع بداية التسعينيات، انفجرت سلسلة من الحروب الأهلية الطاحنة، فضلاً عن حالات التطهير العرقي والمذابح الجماعية، وتنوعت هذه الصراعات ما بين صراعات مثّلت استمراراً لحالات سابقة (السودان ـــــ موزامبيق)، أو استئنافاً لها في شكل جولات جديدة أكثر حدة (بوروندي ـــــ أنغولا). ووفقاً للأمم المتحدة، فإن 14 دولة من إجمالي 53 دولة أفريقية عانت نزاعات مسلحة عام 1996.
إلا أن وجود الظاهرة الإثنية في حد ذاته لا يُعَدّ سبباً كافياً لظهور الصراعات الأهلية، وإن مثّلت بلا ريب ركيزة أو أساساً للحرب الأهلية عندما تُرسم السياسات العامة للدولة وتنفذ على أساس الاعتبارات الإثنية المتحيزة. وبحسب دراسة للبنك الدولي استهدفت الحروب الأهلية في 161 دولة بين عامي 1960 ـــــ1999، فإن العوامل الاقتصادية تؤدي دوراً هاماً في إشعال الحروب الأهلية في القارة الأفريقية. والاختلالات الهيكلية التي تعانيها القارة السمراء اليوم هي نتيجة مباشرة للاستعمار الذي سعى إلى أن تكون اقتصاديات هذه الدول متخلفة تابعة للمراكز الرأسمالية العالمية.
ولقد مثّلت الحروب الأهلية في أحد جوانبها صراعاً على الثروة والمكاسب الاقتصادية. وليس من قبيل المصادفة أن تنخرط ثلاث دول على الأقل من الدول الست الرئيسية المنتجة للماس في أفريقيا في حروب طاحنة، سواء على نحو مباشر أو غير مباشر.
والوصول إلى الثروات الطبيعية لا يكون هدفاً للجماعات المتصارعة فقط، بل يكون أيضاً هدفاً للقوى الخارجية التي تتدخل في النزاعات الأهلية مدفوعة بمصالحها الاقتصادية. فالولايات المتحدة الأميركية اهتمت بالتدخل في الكونغو الديموقراطية في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته لحماية استثماراتها في إقليم كاتنجا (شابا).
وقصّة الصراع في الكونغو الديموقراطية، الأفظع في تاريخ البشرية منذ الحرب العالمية الأولى، إذ ذهب ضحيته أكثر من 4 ملايين بشري، مرتبطة تاريخيّاً بالماس الملطخ بالدماء، وهي تعود إلى فترة الاستقلال من الاستعمار البلجيكي. ففي عام 1960، أطلق الاستقلال صراعاً أهلياً على السلطة وما لذلك من ارتباط بالسيطرة على مقاطعة كاتنغا الغنية بالماس، وكان النصر في ذلك الحين لجوزف موبوتو. سيطرة موبوتو على الماس وعدم توزيع أرباحه توزيعاً عادلاً بين الأطراف دفع لوران كابيلا إلى إطلاق حرب أهلية عليه امتدت لـ30 عاماً، انتهت في عام 1997 بانتصار كابيلا. انتصار لم ينه الحروب الأهلية التي عادت لتندلع بين كابيلا ورفاق السلاح، بعدما حرمهم الأخير حصصاً متساوية من الأرباح.
هذا الصراع جرّ 8 دول أفريقية و25 ميليشيا. ورغم إقرار السلام عام 2002، لا تزال الجبهة الشرقية لجمهورية الكونغو الديموقراطية مشتعلة بأبشع صورة من صور الحرب، حيث تشارك فيها ميليشيات غير منظمة تتخذ من الحرب عملاً لها وتقوم بالسرقة والنهب والاغتصاب والتهجير والإبادة. أما تمويلها، بالإضافة إلى الماس، فيتأتى من التجارة غير الشرعية للذهب والغاز والنحاس والزنك والرصاص الموجود في الكونغو.
وفي سيراليون، أدت الصراعات الأهلية، التي اندلعت في التسعينيات على خلفية تدهور الأوضاع الاقتصادية، إلى مقتل نحو 50 ألف شخص في حروب السيطرة على حقول الماس. كذلك شهدت ليبيريا صراعاً على الماس ذهب ضحيته نحو 200 ألف شخص.

وصل الأوروبيون وكانوا يملكون الإنجيل وكنا نملك الأرض، فأصبحنا نملك الإنجيل وهم يملكون الأرض

ينظر إلى الحدود بين الدول الأفريقية باعتبارها «خطوط الاستعمار» التي تختلف عن الحدود الحقيقية «حدود القبائل»

وفي بيئة يحكمها القوي ويغيب فيها القانون، سيبقى للسلاح الكلمة الأولى والأخيرة في تحديد من يستفيد. وفي كل هذه الحروب كان الماس الملطخ بالدماء السلعة الأساسية لشراء الأسلحة. سلعة لا تنضب بسبب إقبال شركات الماس الكبرى على الشراء نظراً لرخص السعر من دون الاكتراث بالعواقب، رغم الحملة التي حصلت في عام 2003 لتركيز الضوء على تأثير تجارة الماس من مناطق النزاع.
إضافة إلى الماس، هناك النفط، وما يحصل في دلتا النيجر أكبر الأمثلة على تأثيره في الصراعات الداخلية. بدأ الصراع هناك مطلع تسعينيات القرن الماضي بسبب شعور أهالي ولاية ريفرز بعدم استفادتهم من عوائد الذهب الأسود، وذلك إثر التوتر الذي نشب بين شركات النفط الأجنبية وعدد من المجموعات الإثنية التي شعرت بأنه يجري استغلالها. أسهم التنافس على النفط في ازدياد العنف بين العرقيات العديدة، ما أدى إلى عسكرة المنطقة بأكملها وظهور عصابات مسلحة من أبرزها حركة تحرير دلتا النيجر، التي تنظم مقاومة مسلحة تجاه ما تعده «اضهاداً واستغلالاً لشعب منطقة دلتا النيجر والمشاكل البيئية الناتجة من قيام الشركات الأجنبية بالتنقيب واستخراج النفط من المنطقة، وذلك بالتعاون مع الحكومة الفدرالية النيجرية».
وهنا أيضاً تطل السياسة الاستعمارية برأسها، ذلك أن الصراع يرجع إلى بدايات القرن الماضي، حينما فضل الاحتلال البريطاني إحدى الإثنيات في المنطقة، ويبلغ عددها 400 ألف نسمة على الإثنيات الأخرى الأكثر عدداً، وخصها بالمناصب والصلاحيات. كذلك أرسل أبناءها إلى الخارج للتعلم في المدارس الإنكليزية لتأهيلهم لقيادة المنطقة.
بعد رحيل الاستعمار، لم تستطع هذه الإثنية التأقلم مع الوضع الجديد، حيث أصبحت مكانتها معرضة للانهيار لعدم وجود سند لها كما كان، ما أدى إلى اندلاع النزاعات في المنطقة. وفي نهاية عام 1969، حاول انفصاليون في شرق نيجيريا الاستقلال بهذه المنطقة التي تمتلك ما يقرب من 85 في المئة من المخزون الخاص بالنفط، لكن بعد حرب ضروس امتدت لأشهر، استطاع الجيش الفدرالي إخمادها، وأدى ذلك إلى هدوء مؤقت. ومع دخول الشركات الأجنبية إلى هذه المنطقة واستئثارها بعوائد النفط، شعر السكان المحليون بالغضب لعدم استفادتهم من هذا المورد الطبيعي الذي يجري تحت أقدامهم ويؤدي إلى تلوث بيئتهم، لتنطلق مجدّداً موجة من الحرب المحليّة.
وهذه الأمثلة ليست سوى عينة عن أسباب الحروب الأهلية في أفريقيا، حيث يصعب أن تجد بلداً لم يشهد في تاريخه حرباً أهلية كانت أسبابها تقاسم الثروات. وهناك، حيث أصبح الإنسان أرخص من المادة، تُحسب الأرباح ويُكتفى بإحصاء الضحايا، فلا «أحد يهمه أمر أفريقيا».


استقلال للاستغلال

لم تقدم الاتفاقات الاقتصادية الدولية الكثير للشعوب الأفريقية، إلا أنها زادت من تأزم الأوضاع. فقد أثرت سياسات الإصلاح الهيكلي، التي اعتمدها البنك الدولي، تأثيراً كارثياً على الدول الأفريقية.
وفي مقابلة أجريت في عام 1999 مع الرئيس التانزاني السابق يوليوس نيريري، قال: «خلال زيارتي للبنك الدولي قبل عام، أول سؤال وجهوه إلي كان: كيف فشلتم؟ فأجبتهم بأنه حين تسلمنا البلاد، كان 85 بالمئة من مواطنينا البالغين أميين. فبعد 45 سنة من الحكم البريطاني، تركنا مع مهندسين و12 طبيباً. هذا هو البلد الذي ورثناه». وتابع: «على مدى السنوات العشر الماضية، مشت تنزانيا على الخط الذي رسمه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فانخفض الدخل الفردي من 280 دولاراً في عام 1988 إلى 140 دولاراً في عام 1998».
وخلص نيريري بالقول إنه «يبدو أن استقلال المستعمرات ناسب العالم الصناعي، المزيد من الأرباح في مقابل أكلاف أقل. الاستقلال جعل الظروف لاستغلالنا أفضل بالنسبة إليهم».