كولومبيا: أيّ مستقبل بعد أوريبي؟ (1)بول الأشقر
قبل تسع سنوات، في أواخر عام 2000 وبداية عام 2001، زرت كولومبيا للمرة الأولى. تعرّفت إلى الأستاذ ألونزو فالنسيا، أستاذ التاريخ في جامعة كالي (ثالث مدينة في كولومبيا). أعود وألتقيه الآن بعد مرور كل هذا الوقت. أذكّره بأنه في المرة الأخيرة لم يكن ألفارو أوريبي ورقة يحسب لها حساب، أو بالأحرى كنا نسمع دفاعاً شرساً عنه في أوساط الـ«بايزا»، أي سكان ولاية أنتيوكيا، الذين يحبون التميّز عن مواطنيهم بقدرتهم على العمل والمبادرة. لم يكن اسمه قد انتشر بعد في كل أنحاء البلد كما سيحدث في وقت لاحق، وكان زعيم الليبراليين هوراسيو سيربا، الخاسر بفارق ضئيل أمام المحافظ أندريس باسترانا في انتخابات عام 1998، المرشح الأوفر حظاً لخلافته. «صحيح»، يبتسم فالنسيا، «لم يكن قد انهار الكاغوان بعد».
الكاغوان؟ ككل رئيس كولومبي في العقود الأخيرة، انتُخب باسترانا عام 1998 لإنجاز السلام الذي يمزق البلد منذ الأربعينات. بعد انتخابه، وقبل تسلّمه الرئاسة، اجتمع مع مانويل مارولاندا، مؤسس تنظيم «الفارك». وفي أول أشهر ولايته، أصدر قراراً يجعل من مدينة سان فيسينتي ديل كاغوان وجوارها، بمساحة تمتد على 42 ألف كيلومتر مربع، «منطقة هادئة» حرفياً. منطقة من دون توتر ينسحب منها الجيش، وتبقى فترة ستة أشهر تحت إدارة «الفارك»، الذين يستعدّون فيها للانخراط في «مسار تفاوضي من أجل السلام». وقد دخل وضع «الكاغوان» حيّز التنفيذ في أول يوم من عام 1999. واستمر كذلك حتى شباط 2002، عندما خطف «الفارك» طائرة على متنها الشيخ خورخي غشام طربيه، وأبقاه أسيراً فيما أطلق باقي الركاب. في الليلة نفسها، وضع الرئيس باسترانا حداً لمفاوضات السلام. أقل من عشرة أيام بعد هذه النهاية المفجعة، خطف «الفارك» المرشحة الرئاسية إنغريد بيتانكور داخل الكاغوان.
اقترح باسترانا على الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون «خطة كولومبيا»، التي كانت في فكرتها الأصلية «مشروع مارشال» لإنجاز السلام، الذي يمثّل الشق العسكري 45 في المئة من موازنته. إلّا أن المسودة الإنكليزية جعلت من عمليات «الحرب على المخدّرات» والحرب على «الفارك» تمثّلان ثمانين في المئة من موازنته.
مع انهيار الكاغوان، الذي صار يُضرب به المثل لإحباط الدولة: «شعر الناس بأنهم غُدروا مرتين، مرةً من جانب الفارك ومرةً أخرى من جانب الحكومة». ويتذكر ألونزو فالنسيا «استثمر أوريبي هذا الشعور، وعرف كيف يستغله للوصول إلى السلطة من خارج الأطر التقليدية».
أوراق اعتماد أوريبي كانت ما فعله في ولاية أنتيوكيا، التي حكمها بين عامي 1995 و1997: إعادة الأمن إلى المدينة والولاية من خلال إنشاء لجان «كونفيفير» ـــــ «أن نتعايش» ـــــ محوّلاً السكان إلى «متعاونين» مع الشرطة لمحاربة العنف الذي اختصره بـ«الفارك».
بعد فترة، حُلّت اللجان، بعدما تبيّن أن مافيات المخدرات والباراميليتاريس عملتا من خلالها. ماضي أوريبي وعائلته يقرّبانه من كارتيل ميديين (عاصمة ولاية أنتيوكيا) الذي تزعمه بابلو إيسكوبار وخطابه السياسي من الباراميليتاريس. الماضي خارج البحث والغيظ كله منصبّ على عنف «الفارك». يعلن أوريبي رغبته في خوض الانتخابات عن الحزب الليبرالي، حيث حظوظه قليلة بسبب موقع هوراسيو سيربا، وسرعان ما يستقيل من الحزب ويؤسس حركة مستقلّة تغرف من كل الأوساط، وتنفرد بـ«خطاب حرب»، فيما باقي المرشحين يتناقشون كالعادة في صيغ السلام.
للمرة الأولى في تاريخ الرئاسيات، ينجح مرشح من الدورة الأولى، وبخطاب حرب ومن خارج الحزبين الأساسيين. ينجح أوريبي بـ53 في المئة من الأصوات عام 2002، بعدما أقنع الناس بأن يراهنوا على جولة أخيرة وحاسمة من العنف، هذه المرة بمبادرة الدولة. وينتقل فوراً إلى فتح طرق المواصلات، مجبراً «الفارك» على الارتداد إلى المناطق الحدودية بتوريط المدنيين في الصراع في مقابل مكافآت. يتسلّم أوريبي «خطة كولومبيا» ويسميها «خطة الوطن» ويدرجها بالتنسيق مع جورج بوش في خانة «الحرب على الإرهاب». عام 2005، إثر التفاوض مع الباراميليتاريس، يقرّ قانوناً لـ«العدالة والسلام»، الذي أدى إلى تسليمهم سلاحهم في مقابل عقوبة قصوى بالسجن 8 سنوات في حال التعاون مع القضاء، وتعويض ضحاياهم.
الوضع الاقتصادي مؤات و«أوريبي يلجأ إلى دولة المكافآت»، تقول الدكتورة إيزابيل بيرموديز. شعبيته في أوجها. فاز عام 2006 بأكثر من 62 في المئة من الأصوات وبولاية جديدة، بعدما عدّل الدستور بواسطة استفتاء شعبي.
كانت الولاية الثانية تعد بأفضل من الأولى، وعام 2008 كاد أوريبي أن يتوج إنجازاته بعد الضربات المتتالية التي تلقتها «الفارك». لكن القضاء والصحافة والأزمة الاقتصادية العالمية عكّرت مجراها: الاستخبارات التي كانت تعمل على الباراميليتاريس في الولاية الأولى صارت تلاحق الصحافيين والقضاة في الثانية. لماذا؟ لأن شهادات الباراميليتاريس كشفت علاقاتهم بالسياسيين، مولّدة فضيحة «البارابوليتيكا» التي هشّمت الكتلة الأوريبية ووضعت في السجون العشرات من أعضائها. أبرز الإنجازات الأمنية، التي تحمل اسم «الأمن الديموقراطي»، بدأت تتفسّخ: نجحت «الفارك» في وقف نزفها، وعادت فرق الباراميليتاريس إلى العمل، وتصاعدت وتيرة العنف في أبرز المدن.
بالرغم من كل ذلك، بقيت شعبية أوريبي عالية مع تراجع نسبي. وبدأ ينظر إلى أن «دولة الرأي العام مرحلة متقدمة من دولة القانون»، إلا أن المجلس الدستوري بسبعة أصوات في مقابل صوتين لم يكن من هذا الرأي.


عندما لا تكون السياسة امتداداً للحرب