فنزويلا بين النفط والثورة (1/4)بول الأشقر
وصل ريمون قبشي آتياً من زغرتا إلى كراكاس في 23 كانون الثاني من عام 1958، يوم سقوط الديكتاتور ماركوس بيريز خيمينيز. بسبب الظروف، لم يكن أحد من عائلة ابن الـ 17 سنة بانتظاره في المطار. اليوم، المحامي السبعيني يترجم للرئيس هوغو تشافيز في سفرياته إلى العالم العربي، ويقدّم إليه مشورة في بعض شؤون هذا العالم.
يقول القبشي، في مكتبه المواجه لمبنى جريدة «الأونيفرسال»، مستشهداً بوالدته، «من لا يعرف البداية تصعب عليه النهاية».
تبدأ حياة القبشي الفنزويلية مع ولادة الجمهورية الرابعة، جمهورية أحزاب، وخصوصاً «العمل الديموقراطي» الاشتراكي الديموقراطي، والـ«كوبي» الديموقراطي المسيحي، اللذين وقّعا اتفاق «النقطة الثابتة» نسبة إلى الاستقرار المنوي توفيره، وتقاسما الدولة على حساب الآخرين. من أصل عشرة انتخابات نظّمت في إطار هذه «الجمهورية»، التي دشنت عام 1947 قبل أن يقطع رأسها الجنرال خيمينيز بعد سنة، فاز «العمل الديموقراطي» 6 مرات، بينها مرتان لأندريس كارلوس بيريز، وفاز الـ «كوبي» ثلاث مرات، منها مرتان باسم رافائيل كالديرا مرشحه الدائم (للدقّة، المرة الثانية عام 1993، على خلاف مع الكوبي، فاز كالديرا بصفة المستقل). أما المرة الأخيرة، عام 1998، فكانت من نصيب هوغو تشافيز فرياس باسم «حركة الجمهورية الخامسة».
في حفل التسلّم، في شباط 1999، يقسم تشافيز قَسَماً غير معهود: «أقسم أمام الله ووطني، أقسم أمام شعبي بأن أقوم بالتغييرات الديموقراطية الضرورية لإعطاء الجمهورية دستوراً جديداً يلائم الأزمنة الحديثة».

أقسم بأن يُجري التغييرات الديموقراطية الضرورية لإعطاء الجمهورية دستوراً جديداً

في الواقع، دفنت «الجمهورية الرابعة» قبل ذلك، في أواخر شباط 1989 أيام «الكاركاتسو»، يومها تمزقت الصورة التي كانت فنزويلا قد رسمتها عن نفسها. عام 1988، يعود أندريس كارلوس بيريز إلى الرئاسة في محاولة منه لتجديد الأيام الذهبية التي عرفتها فنزويلا خلال رئاسته الأولى (1974 ـــــ 1979). بعد أقل من أسبوعين، يعلن أنه وقّع اتفاقاً مع صندوق النقد الدوليّ يضع حداً لدعم الأسعار، ويجمّد الأجور ويخفض قيمة العملة ويزيد أسعار النقل. يخرج الناس إلى الشوارع، وفي مقدمتهم طلاب يساريون في انتفاضة شعبية. وأمام انتشار أعمال العنف، تعلَن حال الطوارئ ويفتح الجيش النار على المتظاهرين مخلّفاً قتلى تراوح أعدادهم بين 300 و3 آلاف. يومها، زال «النموذج الفنزويلي للأحزاب» وفُتح جرح مع المجتمع لم يندمل بعد.
في الثالث من شباط من عام 1992، تحاول «الحركة البوليفارية الثورية» القيام بانقلاب عسكري يفشل بعد 12 ساعة. يتوجه زعيم المحاولة المقدّم هوغو تشافيز ـــــ كانت المرة الأولى التي تتعرف فيها فنزويلا على اسمه ـــــ إلى الجنود. يتحمّل مسؤولية الأحداث ويدعوهم إلى رمي السلاح: «فشلنا مؤقتاً في تحقيق أهدافنا».
مع تشافيز في السجن، تجري محاولة أخرى فاشلة في أواخر السنة. وفي أيار 1993، يجمّد المجلس النيابي ولاية كارلوس أندريس بيريز، الذي يحوَّل إلى القضاء بسبب مسألة فساد. بعد سنة من وقوع الانقلاب، يخوض كالديرا الانتخابات المبكرة ويفوز بـ30 في المئة من الأصوات. أول نقطة في برنامج كالديرا العفو عن الضباط. وفي ما عدا ذلك، لم يحكم أحسن من أندريس كارلوس بيريز. استنفدت «جمهورية الأحزاب» أفضل ما عندها. دقت ساعة تشافيز، الذي يفوز بـ 56 في المئة من الأصوات، ويقرّ باستفتاء صياغة دستور جديد ويفوز ثانيةً بـ 59 في المئة من الأصوات في أول انتخابات عامة وفق دستور «جمهورية فنزويلا البوليفارية».
يتسلّم تشافيز ولايته الجديدة عام 2001 ويحصل على صلاحيات لسن قوانين بشأن الزراعة والنفط وصيد السمك. في 11 نيسان عام 2002، يقيله انقلاب عسكري ويُعتقل خلال 48 ساعة قبل أن يعود ظافراً

دعا عام 2007 إلى استفتاء لتعديل طموح «اشتراكي» للدستور، فكانت خسارته الأولى

إلى قصر ميرافلوريس إثر تحرك عسكريين موالين، والأحياء الشعبية. وفيما كان يتفاوض مع المعارضة، يفاجأ بإضراب عام يبدأ بشركة النفط، ويمتد إلى باقي الاقتصاد. يصمد تشافيز 62 يوماً ويتفكّك الإضراب وتنشأ «هيئة أصدقاء فنزويلا» للتوسط بين الأطراف. يعيد تشافيز تنظيم شركة النفط والقوات المسلحة. ويطلق عام 2003 ما يسميه «الإرساليات البوليفارية»، نظرة مغايرة إلى فقراء البلد في مجالات التعليم والتطبيب تستعين بالخبرات الكوبية. عام 2004، تنجح المعارضة في جمع تواقيع كافية لتنظيم استفتاء إقصائي (أحد إنجازات دستور الجمهورية الخامسة) بشأن بقاء تشافيز وبإشراف دولي، تحصل على نحو 4 ملايين صوت مقابل نحو ستة ملايين لتشافيز. ثم تفوز حركة هذا الأخير بجميع حاكميات المحافظات باستثناء اثنتين. عام 2005، تقاطع المعارضة الانتخابات التشريعية تاركةً لتشافيز السيطرة المطلقة على مجلس النواب. عام 2006، يجدد ولايته بالفوز بـ 63 في المئة من الأصوات.
يقرأ تشافيز ولايته الثانية بأنها جواز نحو الاشتراكية. يحاول توحيد أنصاره في حزب وحيد. يدعو عام 2007 إلى استفتاء لتعديل طموح («اشتراكي») للدستور يتضمن رفع القيود أمام إعادة ترشّح الرئيس. يخسر تشافيز للمرة الأولى وتحصل المعارضة على 51 في المئة، في استحقاق قاطعه مليونان من ناخبي تشافيز قبل سنة. عام 2008 هو موعد انتخابات حكام المحافظات والبلديات، يفوز حزب تشافيز بـ 17 ولاية وتحرز المعارضة خمساً، منها بلدية العاصمة. عام 2009، يعيد طرح مسألة رفع القيود لإعادة الترشح أمام كل المواقع التنفيذية، ويحصل التعديل هذه المرة على نحو 55 في المئة من التأييد، ما يعني أنه صار يحق لتشافيز إعادة الترشّح لولاية ثالثة تبدأ عام 2013.


الزيارة الأولى لكوبا بالتأكيد أُعجب الكوبيون برشاقة الرجل، ولكن الأهم كان أن سحره أخذ يفعل فعله في كراكاس، حيث بدأت القوى اليسارية تتوحّد حول من أصبح مرشحها الطبيعي.