رفعت الصين صوتها عالياً رافضة صفقة سلاح أميركية لتايوان، ومستمدةً شجاعتها من تفوّق اقتصادي على الولايات المتحدة وتنافس سياسي مع بلاد العم «سام» في عدد من القضايا، في مقدّمها الملف النووي الإيراني ونفوذ متوزّع بين القارات، وهو نفوذ عرفت بكين جيداً كيف تسحبه من تحت أقدام واشنطن. فالتنين الأصفر بدأ يكشّر عن أنيابه ليستأنف دوره كإحدى القوى الكبرى في العالم
جمانة فرحات
فجّرت صفقة السلاح الأميركية إلى تايوان الخلاف بين الولايات المتحدة والصين. خلاف لم يكن وليد اللحظة، بل راكمته مجموعة من التطورات السياسية والاقتصادية، كان من الممكن رصدها منذ العام الماضي.
وإن كانت الأزمة بين بكين وواشنطن بشأن تايبيه متوقعة منذ اللحظة الأولى لتسريب مصادر في الإدارة الأميركية خبر قرب إتمام الصفقة، فإن اللافت كان الحدّة الصينية في التعاطي مع القضية، وفقاً لما تبدّى في الأيام الأخيرة.
صفقة أرادت واشنطن من خلالها المواءمة بين التزامها تجاه تايوان من جهة، ورغبتها في الحفاظ على علاقتها التي كانت قد بدأت تتحسن مع الصين، بعد فتور سبّبته أيضاً تايوان.
وشملت صفقة الأسلحة، المقدرة قيمتها بـ6.4 مليارات دولار، مجموعة من الأسلحة التي توفّر حداً أدنى من التوازن بين بكين والجزيرة المهددة باستمرار برغبة صينية في إعادتها إلى حظيرة الدولة الشيوعية، من دون أن تلامس الخط الأحمر الصيني، وتحديداً طائرات «أ ف 16»، التي تسعى تايوان منذ سنوات للحصول عليها.
وفي مقابل اختيار الولايات المتحدة محاولة إرضاء الطرفين، كان موقف بكين أكثر حدّة، واضعاً واشنطن بين خيارين لا ثالث لهما: إلغاء الصفقة، وهو الأمر غير المرجّح بعدما حوّلتها وزارة الدفاع الأميركية «البنتاغون» إلى الكونغرس لإقرارها، وإلا تحمّل «مسؤولية القرار الخاطئ وتبعاته».
عرفت الصين كيف تقضّ مضجع أميركا، لا بإيقاف التعاون العسكري فقط، كما حصل سابقاً، بل، وللمرة الأولى، بالتهديد بفرض عقوبات على الشركات التي تبيع أسلحة لتايوان.
تهديد استمدت بكين شجاعة إطلاقه من الأزمة الاقتصادية والركود اللذين تعاني منهما الولايات المتحدة، على عكس الصين التي تبرز المؤشرات أنها تتخطاهما. هذا التهديد كان كفيلاً بأن تعلو بسببه أصوات هذه الشركات، وبينها «بوينغ» و«لوكهيد مارتن»، اللتين تريان في السوق الصينية سوقاً عملاقة لا تضاهيها أي سوق أخرى.
وعرض العضلات الصيني في وجه الولايات المتحدة كان من الممكن رصد فصوله في الخلاف الذي نشأ بين بكين وعملاق البحث الأميركي «غوغل». رفضت الصين «الدروس الأميركية في مجال الإنترنت»، في ردّ على انتقادات وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، التي طالبت بكين بإنهاء رقابتها على الشبكة العنكبوتيّة، محذرة من «جدار برلين إلكتروني» وواضعة الصين ضمن دول مثل إيران والسعودية وغيرهما من الدول التي تتّسم بالقمع الكبير لحرية الإنترنت.
وتردّي العلاقات بين البلدين يسهم في تعزيزه عدد من المسائل الاقتصادية والمالية، التي ترى فيها واشنطن قوة دافعة لبكين، وفي مقدّمها سعر صرف «اليوان» المنخفض.
منذ كان باراك أوباما مرشحاً للانتخابات الرئاسيّة، كان يشدد على أهمية أن توقف الصين التلاعب بعملتها من خلال إبقاء قيمة اليوان منخفضة مقابل الدولار. إلا أن الصين ترى أن إعادة النظر في تقويم سعر عملتها مرتبطة بتوقف الدول الغربية عن دعم اقتصاداتها بإجراءات استثنائية.
وترفض الصين ضمناً أي تغيير في سعر اليوان، وخصوصاً في ظل المزايا التنافسية التي يوفّرها السعر الحالي لعملتها ضمن معادلة يوان منخفض يوازيه إبقاء أسعار البضائع الصينية منخفضة في الولايات المتحدة، في مقابل ارتفاع أسعار البضائع الأميركية في أسواق الصين.
وإذا كانت الصين تتسلّح بسعر عملتها المنخفض، فالولايات المتحدة ترفع في وجهها عصا الحمائية. وسبق للإدارة الأميركية الجديدة أن اتخذت سلسلة من الإجراءات ضد الصادرات الصينية من الإطارات والمواسير الفولاذية.
وأظهر تقرير نشرته وزارة التجارة الصينية تعرّض البضائع الصينية المصدّرة إلى الخارج في العام الماضي لتحقيق تجاري بزيادة 121.2 في المئة.
ومع ذلك، من غير المرجح أن يتأثر كثيراً نمو الصادرات المستقبلي للصين، في ظل تركيزها على المنتجات ذات القيمة المرتفعة، مثل الرقاقات الإلكترونية.
وتشهد هيئة تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية على الخلافات التجارية بين البلدين، عبر الشكاوى المتبادلة، لعل آخرها القرار الذي اتخذته لجنة الاستئنافات التجارية الدولية التابعة للمنظمة. ورأى أن ما تفرضه الصين من قيود على مستوردات الولايات المتحدة من الأفلام السينمائية والكتب والتسجيلات الموسيقية يمثّل خرقاً لقواعد التجارة العالمية.
أما على الصعيد السياسي، فيبرز، إلى جانب ملف تايوان، ملفا التيبيت وحقوق الإنسان. وتتخذ الصين موقفاً متشدداً من التيبيت وترى في سيادتها عليها أمراً غير قابل للتفاوض، في ظل تمتعها بموقع جيو ـــــ استراتيجي متميّز.
من هذا المنطلق، حذرت بكين من أضرار جسيمة ستلحق بالعلاقات المتوترة أصلاً مع واشنطن إذا التقى مسؤولون أميركيون بالزعيم الروحي للتيبيت، الدالاي لاما.
وإذا كان أوباما قد استطاع التهرّب من لقاء الدالاي لاما، السنة الماضية، لإنجاح زياته الأولى إلى الصين، التي جرت قبل قرابة شهرين ونصف الشهر، إلا أن زيارة الدالاي لاما حالياً للولايات المتحدة جعلت من اللقاء أمراً محسوماً، ليصبّ الزيت على النار في علاقات البلدين.
وفي ملف حقوق الإنسان، تتعرض الصين لانتقادات دولية حادة. وسبق لأوباما أن حدد من شنغهاي، في خطاب ألقاه أمام عدد من الطلاب الصينيين، بعض الحقوق التي يريد أن ترتقي بها الصين، ومنها حرية العبادة والمشاركة السياسية والوصول الحر إلى المعلومات.
إلا أن الصين لم تعر اهتماماً لنصائح أوباما، وترجمت سياسة اللامبالاة حكماً قضائياً قاسياً قضى بسجن المنشق ليو شياباو أحد عشر عاماً.
ولا شك في أن الاستقواء الصيني جاء ليعكس التبدّل الذي طرأ على ميزان القوى بين الصين والولايات المتحدة. فواشنطن أشبه اليوم برهينة للصين التي يسجل ميزانها التجاري فائضاً ضخماً مع الولايات المتحدة، في مقابل عجز في الميزان التجاري للأخيرة مع بكين.
هذا فضلاً عن أن الصين تعدّ أكبر حائز أجنبي للسندات الحكومية الأميركية. وكشفت أرقام أعلنتها وزارة الخزانة الأميركية، الشهر الماضي، ارتفاع سندات الخزانة لدى الصين إلى 790 مليار دولار، متفوّقةً على اليابان التي تمتلك 757 ملياراً وبريطانيا التي تمتلك 278 ملياراً.
تفوّق يأتي على الرغم من أن الصين لم تشتر خلال عام 2009 سوى 4.6 في المئة من سندات الخزينة الأميركية، مقارنة مع 20.2 في المئة عام 2008 و47.4 في المئة عام 2006.
وهذا الدين الأميركي الهائل للصين، دفع البعض، وبينهم الصحافي البريطاني مارتن جاك الذي أصدر كتاباً بعنوان «عندما تحكم الصين العالم.. نهاية العالم الغربي ومولد النظام العالمي الجديد»، إلى الحديث عن أن «الصين تسير في الطريق الصحيح لتولّي الهيمنة على العالم»، وسط تأكيدات أن الصعود الصيني يتجاوز التداعيات الاقتصادية ليطال النواحي السياسية والثقافية.
استقواء ظهر في مواقف بكين في عدد من القضايا الناشئة، وفي مقدّمها مسألة المناخ؛ أثبتت الصين خلال قمة المناخ الأخيرة التي انعقدت في كوبنهاغن أنها الرقم الصعب الذي لا يمكن تخطّيه، مجبرةً الولايات المتحدة على الأخذ بتوجهاتها في هذه القضية، ليتحول مؤتمر المناخ من اجتماع عالمي إلى اجتماع ثنائي في الدرجة الأولى، كان للصين الكلمة الفصل فيه.
كذلك فإن الاستقواء الصيني امتدّ ليشمل ملفات دولية ذات علاقة مباشرة بمصالح الصين، بما في ذلك الملف النووي الإيراني.
فعلى الرغم من الضغوط الأميركية التي تتواصل على بكين لاتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه الملف النووي الإيراني، رفضت الأخيرة الرضوخ، متمسكة بضرورة الحوار والتفاوض.
رفض تحركه بالدرجة الأولى مصالح الصين الاقتصادية، وتحديداً النفطية. فإذا كانت الولايات المتحدة بفعل نفوذها في الخليج قادرة على توفير أمنها النفطي، فإن الصين تعتمد اعتماداً أساسياً على إيران لتزويدها بنسبة تقارب 14 في المئة من احتياجاتها النفطية، ممثّلةً بذلك ثاني أكبر مصدّر للنفط والغاز للصين، فضلاً عن العقود النفطية المبرمة بين البلدين التي تتخطى قيمتها 120 مليار دولار على مدى 5 سنوات.
وللعلاقات التجارية دورها المركزي في العلاقة مع إيران، وسط ازدياد متواصل في حجم الصادرات تخطّى نسبة 40 في المئة خلال الأشهر التسعة الماضية، ليصل حجم صادرات إيران إلى الصين إلى أكثر من ملياري دولار.
مصالح دفعت بكين إلى عدم الالتفات إلى رغبات واشنطن وإملاءاتها كثيراً، عبر الإجهاض المتكرر لاجتماعات الدول الكبرى بشأن إيران، أو حتى أي محاولة لفرض عقوبات في مجلس الأمن.
ولا يقتصر الخلاف الأميركي الصيني على ملف إيران، بل يمتد أيضاً ليشمل الملف النووي لكوريا الشمالية. واستغلت بكين علاقتها المميزة بكلّ من طهران وبيونغ يانغ والحاجة الأميركية إلى موقف صيني داعم في هذين الملفين، لتحمّل واشنطن «المسؤولية كاملة» إذا ما أوقفت الصين تعاونها مع الولايات المتحدة في «الملفات الدولية الكبيرة».
وعرفت الصين كيف تستغل جيداً انشغال الولايات المتحدة بقضايا مكافحة الإرهاب وحروبها في أفغانستان والعراق والملفين النوويين الإيراني والكوري الشمالي، لتعيد صياغة موقعها في القارة الأفريقية.
وسخّرت الصين دبلوماسيّتها لتأمين مصالحها الاقتصادية في ظل حاجتها إلى موارد القارة، بدءاً بالمواد النفطية ووصولاً إلى المواد الأوّلية.
ووفقاً لتقرير أعدّه «معهد سياسة الأمن والتنمية» في ستوكهولم بعنوان «الصين وأفريقيا والعولمة: البديل الصيني»، اتخذت العلاقة ثلاثة أشكال رئيسيّة توزعت بين المساعدات الرسميّة والتجارة والاستثمار، إضافة إلى الاتصال الثقافي.
وجاء انعقاد منتدى التعاون بين الصين وأفريقيا، بدورته الرابعة في كانون الأول الماضي، وتزامنه مع إعلان الصين مساعدات وقروض للقارة تقدّر بـ10 مليارات دولار، ليسلّط الضوء على الدور الصيني، وسط انقسام في النظرة إلى هذا الدور بين من يعدّ بكين شريكاً في التنمية ومن يرى أنها منافس اقتصادي أو بلد مستعمر.
تشكّك يأتي وسط تضاعف غير مسبوق في حجم الاستثمارات الصينية في أفريقيا، الذي ارتفع من أقل من مئة مليون دولار في عام 2003 إلى 5.49 مليارات دولار في عام 2008. وترافق في الوقت نفسه مع ارتفاع في التبادل التجاري من 5 مليارات في عام 1995 إلى أكثر من 100 مليار دولار عام 2008، ليمثّل 5 في المئة من حجم التجارة الصينية مع العالم.
أما على الصعيد الدبلوماسي، فالصين صاحبة المقعد الدائم في مجلس الأمن، باتت اليوم تشارك على نحو متزايد في مهمات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.
ومن المؤكد أن هذا القرار ليس عرضياً، بل ينسجم مع التحولات الكبرى التي مرّت بها الصين، واستلزم تغيّراً في نظرتها إلى العالم الخارجي.
ولا تقتصر أهداف هذه المشاركة على المساهمة في تحقيق الأمن الجماعي، بل تتعداها، بالدرجة الأولى، إلى السماح للصين بكسب النفوذ، وحماية وتطوير مصالحها السياسية والاقتصادية التي باتت أكثر ترابطاً من أي وقت مضى.

ملفات سياسية واقتصادية عالقة توتّر العلاقات بين البلدين

الصين استغلت الانغماس الأميركي في الحروب لترتب أوضاعها على الساحة الدولية
ووسط هذه المعطيات، خرج وزير الخارجية البريطاني ديفيد ميليباند ليتحدّث عن أهمية الدور الصيني وتحوّله إلى أمر ضروري لا ترف، ووصفها «بأنها القوة الضرورية للقرن الـ21 بما لها من كلمة فاصلة في مستقبل الاقتصاد العالمي وتغيّر المناخ والتجارة العالمية»، لافتاً إلى أنها باتت جاهزة لمشاركة الولايات المتحدة في قيادة العالم.
مشاركة لا سيطرة. ولذلك من غير المرجح أن الصين، مهما بلغت حدة التوتر بينها وبين الولايات المتحدة، ستبالغ في تأكيد تفوّقها، على الأقل في المرحلة الراهنة. هي تنتهج دبلوماسية حذرة قائمة على الحكمة بالدرجة الأولى. حذر وحكمة ستخضع بموجبهما العلاقات بين البلدين لنوع جديد من الضغوط، التي يبدو أن الصين كانت تستعد لها منذ مدة.
استعداد تمثّل في اختيارها ممثّلها في مجلس الأمن، زانغ يي سو، للعمل على رأس بعثتها الدبلوماسية في واشنطن ابتداءً من شهر آذار المقبل.
وفي اختيار زانغ، الذي اكتسب سمعة في نيويورك بوصفه مبعوثاً بنّاءً وحذراً، دلالات كثيرة. فقد سبق له أن عمل عملاً وثيقاً مع الدبلوماسيين الأميركيين في مجلس الأمن، وتحديداً في ملف كوريا الشمالية وفرض العقوبات عليها رداً على إطلاق صواريخ بالستية والتجارب النووية، فيما كان أكثر صرامة في الملف الإيراني، وسعى حثيثاً إلى إقناع مجلس الأمن بعدم فرض عقوبات على طهران، ما يؤكد أن بكين أرسلت إلى واشنطن مبعوثاً قادراً على نقل مختلف الرسائل باختلاف الظروف، ووفقاً لما تقتضيه المصالح الصينية فقط.


احتكاك مباشر

أعاد التوتر بين الصين والولايات المتحدة، إلى الأذهان عدداً من الاحتكاكات المباشرة التي أثبتت من خلالها الصين أنها لا تسمح لأي كان بانتهاك سيادتها.
وفي مقدمة هذه الحوادث، المواجهة التي حصلت فوق بحر الصين الجنوبي بين مقاتلتين صينيتين وطائرة استطلاع أميركية من طراز «اي . بي 3» أجبرت على الهبوط في البر الصيني. والحادث، الذي حصل في شهر نيسان 2001، أتى بالتزامن مع قرب صدور قرار من إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش بشأن بيع صواريخ متطورة وأنظمة دفاع جوي لتايوان. وفضلاً عن إثارته مخاوف أميركية من معرفة أسرار الطائرة وما تحمله من أجهزة تنصّت وتجسّس، كان دليلاً حاسماً على رفض الصين أي اقتراب أميركي من مجالها الحيوي.
ولم يكن هذا الحادث فريداً من نوعه، فشهد شهرا آذار وأيار من العام الماضي خمسة حوادث بين سفن أميركية وأخرى صينية. وكان الحدث الأبرز في شهر آب الماضي، عندما اعترضت زوارق حربية صينية إحدى السفن الحربية الأميركية وأجبرتها على التراجع بعيداً في البحر، بعد اتهامها بالتجسس على قاعدة بحرية صينية.