يُعرَف عن مهندس السياسة الخارجية التركية، أحمد داوود أوغلو، إيمانه بأنّ السياسة بمفهومها الضيق، ليست سوى نتيجة لبنى تحتية تجد جذورها في العلاقات الاقتصادية بين الشعوب والأمم، وتبادل ثقافي وديني إن وُجد، وُجدت علاقات سياسية ودبلوماسية مزدهرة بين دولتين، وفي حالتنا بين تركيا والعالم أجمع.
بناءً عليه، فإنّ السياسة المتعددة الأوجه والأبعاد التي كتب عنها داوود أوغلو في «العمق الاستراتيجي»، ويطبّقها بطريقة غير مباشرة منذ 2002، ومباشرة مذ بات وزيراً للخارجية في أيار 2009، تنطلق من علاقات الشعب التركي بالشعوب المجاورة الأوْلى بالمعروف، وحتى البعيدة عن الحدود التركية التي لا بدّ أنّ رابطاً ما يجمعها بالشعب التركي، أكان ثقافياً أم سياسياً أم تاريخياً أم لغوياً أم اقتصادياً... وأخيراً سياسياً.
هكذا قرّرت الدبلوماسية التركية منذ 2002 جعل البلد مفتوحاً أمام أكبر قدر من شعوب العالم، في نقطة ترى أنقرة أنها ضرورية لها في النظام العالمي الجديد، ومدخلاً لتأدية دور مركزي فيه. من هنا بات مواطنو نحو 60 دولة يدخلون إلى تركيا من دون تأشيرة، في ما بات يُعرَف بـ«سياسية اللافيزا» التركية.
وإن كانت هذه السياسة مبدأً لا تفصيلاً في الدبلوماسية التركية، فإنّ لها جوانب عديدة في التكتيك أيضاً، وخصوصاً تجاه الاتحاد الأوروبي.
فتح حدود تركيا ضروري لتؤدّي دوراً مركزياً في النظام العالمي الجديد
في المقابل، رغم أن تركيا باتت مرشّحة منذ عام 1999، وتفاوض على عضويتها مع الاتحاد منذ عام 2005، فإنّ مواطنيها لا يزالون محرومين من التمتع بامتياز دخول منطقة الـ«شنغن» (الدول الـ27 إضافة إلى سويسرا وايسلندا والنروج) من دون «فيزا»، رغم أنّ 11 من أصل 35 فصلاً من فصول العضوية فُتحت (الفصل الـ12 بدأ التفاوض في شأنه منذ شهرين، ويتمحور حول الشروط المناخية).
«إهانة» أمكن تحسّسها من تصريح ناري أطلقه أخيراً مَن هو معروف بدبلوماسيته الناعمة جداً، داوود أوغلو نفسه، الذي علّق على القرار بالقول إنّ «من غير المقبول أن تُعطى بعض دول البلقان امتياز شنغن رغم أنها لا تزال في المراحل الأولية لمفاوضات العضوية في الاتحاد الأوروبي، بينما تركيا، وأخذاً في الاعتبار المستوى الذي بلغته علاقاتها الأوروبية، لا تزال محرومة منه».
وفي السياق، يرى البعض أنّ مسارعة تركيا إلى إلغاء شرط نيل تأشيرة دخول إلى أراضيها أمام عدد كبير من الدول، ولا واحدة منها عضو في الاتحاد الأوروبي، هي في جزء منها «نكاية» بهذا الاتحاد. ومَن قال إنّ «النكاية» ليست أحد أساليب التكتيك المعتمَدة منذ القدم في علاقات الأمم؟
ويحمل قرار أنقرة فتح حدودها عدداً كبيراً من الرسائل الضمنية؛ أولاها تأكيد جديد للخروج من محورية العمل على جبهة الاتحاد الأوروبي وهدف الانتساب إليه، بمعنى أنّ تركيا ليست فقط أوروبية، بل كوزموبوليتية إلى درجة تسمح لها بأن تستقبل شعوب العالم كافة بمجرد أن يكون في حوزتهم جواز سفر.
الرسالة الثانية أمنية، يرى البعض أنها سيف ذو حدّين بالنسبة إلى اتحاد القارة العجوز ودوله: من جهة، قد يرى الأوروبيون أنّ «سياسة اللافيزا» حجّة إضافية بالنسبة إليهم لإعاقة أو
إلغاء شرط الفيزا تجسيد للسياسة المتعددة الأبعاد والخروج من الحصرية الأوروبية
ولفتح الحدود جانب اقتصادي يتلاقى مع الأهداف التركية السياسية؛ فتركيا دولة سياحية بامتياز، دخل إليها نحو 31 مليون سائح في 2008 (يتصدّرهم الألمان والهولنديون والروس)، مُدخِلين إلى البلاد ما قيمته 22 مليار دولار أميركي، أي نحو 4.5 في المئة من الناتج الوطني المحلي. وتبنّت حكومة رجب طيب أردوغان أخيراً خططاً جديدة لزيادة عدد السياح من دول منطقة الخليج من 10 في المئة إلى 20 في المئة خلال الأعوام المقبلة، ومن ضمن هذه الخطط يندرج قرار إلغاء شرط الفيزا بالنسبة إلى رعايا بعض دول المنطقة.
دخول حرّ من وإلى