لم يمنع النمط المتطرف من العلمانية في تركيا، من ظهور حالات الحنين نحو الخلافة الإسلامية لدى العديد من الأتراك، متحدّين الحظر المفروض على المظاهر الدينية. إذ إن علمانية الدولة، التي فرضها مصطفى كمال أتاتورك منذ عام 1923، وحماها العسكر عقوداً، لم تتمكن من التصدي لخروق عديدة تمكّن الإسلاميّون في نهايتها من الوصول إلى عرش السلطة
معمر عطوي
لم يكن وصول حزب الرفاه الإسلامي، بقيادة نجم الدين أربكان إلى رئاسة الحكومة التركية عام 1996، سوى محطة مفصليّة توجّت تاريخاً طويلاً من الصراع بين المتديّنين ومؤسسة الجيش، الحامية لمبادئ جمهورية تركيا الحديثة. مبادئ قضت بفصل الدين عن السياسة، في بلد كان يمثّل مركز الخلافة الإسلامية لأكثر من أربعة قرون. ربما كانت الفترة التي حكم فيها الجنرال مصطفى كمال أتاتورك، أي أب الأتراك، من 1923 إلى 1938هي فترة حكم الحزب الواحد «حزب الشعب الجمهوري»، ولا سيما بعد إنشاء حزبين لم تُكتب لهما الحياة: الترقّي الجمهوري (1924) والحر الجمهوري (1930).
رغم ذلك، نشطت أحزاب سياسية كانت تسعى إلى تبنّي الإسلام في منظومتها الفكرية، من خلال لغة التقيّة والمواربة، منها «الحزب الديموقراطي»، بقيادة جواد رفعت أتلخان، الذي أحيل على المحاكمة بسبب «استخدامه الدين في الأغراض السياسية». كذلك «حزب النهوض الوطني»، وجمعية «بيوك طوغو» العسكرية، و«حزب الدفاع عن الإسلام». وكان الهمّ الأساسي لهذه الأحزاب إعادة البلاد إلى هويتها الدينية المفقودة.
في أي حال، كانت مرحلة حكم أتاتورك هي الأقسى في طريقة تعاطي السلطة مع مظاهر التديّن. لكن إثر وفاة «أبي الأتراك»، ازداد حجم الخروق في جدار المبادئ الأتاتوركية، رغم الانقلابات المتتالية والملاحقات الأمنية وحالات حظر أحزاب وجمعيات وصحف لها طابع ديني.
وتميّز عهد أتاتورك بمنع رجال الدين من ارتداء العمائم، والنساء من وضع الحجاب على رؤوسهن، وإلغاء التأريخ بالهجرية من الدوائر الرسمية والصحف والمجلات، وتغيير الحرف العربي إلى حرف لاتيني، ما مثّل في نظر العديد من الأتراك تحديّاً للغة القرآنية.
نشطت أحزاب سياسية كانت تسعى إلى تبنّي الإسلام من خلال التقيّة والمواربة
غير أن عهد مصطفى كمال، شهد نشوء ميليشيات سرية، بقيادة الشيخ سعيد البالوي، الكردي النقشبندي. ميليشيات تعاطت معها الحكومة على أنها حركة دراويش حيناً، وكحركة انفصالية كردية حيناً آخر. بيد أن الالتفاف الشعبي السريع حول هذه الحركة، وخصوصاً في الأناضول، دفع الجيش للزحف نحو معاقل «المتمردين»، واعتُقل البالوي وأُعدم عام 1925. واستدعت هذه التطورات إضافة مادة إلى قانون الخيانة الوطنية، نصّت على حظر تكوين جمعيات تستند في تحقيق غاياتها السياسية إلى الدين، واعتبار كل من يشارك في جمعيات كهذه خائناً للوطن.
ولم تنتشر التعاليم الكمالية، انتشاراً واسعاً في كل تركيا، بحكم ضعف وسائل الاتصال والمواصلات آنذاك، بل بقيت في بعض المدن الكبرى والعاصمة. وحاولت السلطات، بعد وفاة أتاتورك، اتّباع بعض الليونة بغية امتصاص نقمة الشعب، فأصبحت المدارس الدينية الخاصة تعمل بموجب قانون خاص بقرار من وزارة التعليم المحلي بدءاً من عام 1947. ووافقت الحكومة على تدريس الدين في المدارس الثانوية.
بعد وفاة أتاتورك (1938)، شهدت تركيا عودة لظهور جمعيات دينية، وصل عددها، بين عامي 1955 و1978، إلى ما يزيد على الألف جمعية. كذلك انتعشت الطرق الصوفية الإسلامية، مثل التيجانية والبكتاشية والنقشبندية والقادرية والمولوية والرفاعية وغيرها. وكانت هذه الطرق بمثابة الرحم الذي خرج منه قادة إسلاميّون رفيعو المستوى مثل نجم الدين أربكان وفتح الله غولن في ما بعد.
ولعل أهم هذه الجمعيات، جمعية «رسائل النور»، التي أطلقها بديع الزمان النورسي، والتي تدعو الى التوفيق بين العلم والإيمان. لكن الرجل لم ينجُ من الملاحقات الأمنية والسجون بتهمة «تأسيس جمعية سريّة هدفها تحطيم الأسس العلمانية للجمهوريّة»، إلى أن توفي عام 1960.
أمّا طلاب «النور» فقد تعاطفوا، في ما بعد، مع حزب «السلامة الوطني»، الذي أسسه أحد إخوانهم، وهو نجم الدين أربكان، عام 1972. لكنهم انقلبوا عليه حين دخل الحكومة في ائتلاف مع حزب الشعب الجمهوري برئاسة بولنت أجاويد. واتهموه بأنه صاحب مشاريع خيالية أثارت الجيش ضده. وشهدت فترة الحكومة الائتلافية بين أجاويد وأربكان بروز بعض المظاهر الإسلامية، إذ باتت المدارس الدينية تشرف على تعليم 10 في المئة من طلاب المدارس الثانوية.
وفي خمسينيات القرن الماضي، نشأت في تركيا جمعية «السليمانية». وانتشرت في المحافظات الجنوبية، ولا سيما في أضنة. وكان معظم أعضائها من التجار الكبار. رأت هذه الجماعة أن القوانين التي تطبّق في تركيا «قوانين الشيطان المستوردة». وتعرّض رئيسها سليمان تونهان وأعضاؤها للملاحقة والسجن، إلى أن توفي تونهان عام 1959 ورفضت السلطات دفنه في مسجد محمد الفاتح في إسطنبول.
وتمكن القائد الجديد لهذه الحركة، وهو صهر تونهان، كمال كاجار، من دخول صفوف حزب العدالة (علماني)، عام 1973، والفوز بمقعد في البرلمان.
أمّا النقشبندية، فهي جمعية صوفية، تعرّضت لحملة أمنية واسعة في منطقة ماردين ذات الغالبية الكردية، عام 1954. هذه الحركة كانت من مؤيدي حزب السلامة الوطني (أربكان)، ثم تحولت في ما بعد إلى تأييد حزب الوطن الأم (علماني قومي). لكنها عام 1986 عادت لتؤيد حزب الرفاه، ذا التوجّه الإسلامي.
إلى جانب ذلك، ظهرت الطريقة التيجانية، التي قام زعيمها كمال بيلاو أوغلو، بثورة الدراويش عام 1952، فأعدمته السلطة إلى جانب العديد من رفاقه.
وقد تكون مرحلة وصول عدنان مندريس إلى السلطة عام 1951، المرحلة التي مثّلت انعطافة مهمة في تاريخ البلاد. مندريس هذا، لم يكن إسلامياً، إلّا أنه قاد انشقاقاً عام 1945 على حزب الشعب الحاكم، وأسس الحزب الديموقراطي، الذي وصل إلى السلطة عن طريق الانتخابات، عام 1950، لنجاحه في دغدغة المشاعر الدينية للشعب التركي. بيد أن مندريس، الذي ترأس الحكومة، سقط في أول انقلاب عسكري عام 1960، وأُعدم بتهمة «محاولة قلب النظام العلماني وتأسيس دولة دينية».
كان لظهور موجة فكرية إسلامية في العالم العربي، انعكاساته على الشارع التركي
كذلك، كان لظهور موجة فكرية إسلامية في العالم العربي، انعكاساتها على الشارع التركي. ولعل أبرز تجليات هذا التأثر، حزب السلامة الوطني، الذي خرج من رحم «حزب النظام الوطني» بقيادة أربكان. لكن هذا الحزب حلّته السلطات عام 1971. وبعد سنوات نشأ «حزب الإبداع»، الذي حمل شعار «النضال الإسلامي في تركيا»، و«حزب الانبعاث»، الذي تأسس عام 1990. كما ظهرت «عصبة المسلمين الاشتراكيين» في أزمير. وبعدها الجماعة «القطبية»، التي تعمل بأراء المفكر الإسلامي، سيد قطب.
أما «حزب الله»، فقد كان نتاجاً للثورة الإسلامية الإيرانية، وكان انتشار هذا الحزب وسط مجموعات الأكراد الشيعة. طبعاً كان ذلك إلى جانب «حزب الوحدة»، الذي يمثل الشيعة الاثني عشرية، والذي حصل في انتخابات عام 1996 على 8 مقاعد في البرلمان.
على الضفة الأخرى، كانت هناك أحزاب علمانية وقومية تسلّلت إليها شخصيات إسلامية في محاولة للتغيير من الداخل. مثل حزب «العدالة» الذي تزعمه سليمان ديميرل، وانخرطت فيه بعض العناصر النورسية. وقدّم الحزب تنازلات لحزب السلامة (الإسلامي) لاعتبارات تتعلق باجتذاب الدعم العربي إلى البلاد.
وعرف الحزب الديموقراطي، بميل بعض قواعده وقيادته الوسطية للإسلام. نتيجة ذلك، استُئنف الأذان باللغة العربية، وبثّ آيات من القرآن والصلاة في إذاعة أنقرة. في المقابل، لم يمنع كل هذا التحول مؤسسة العسكر من تضييق الحصار على المتدينين، واعتقال العديد منهم، وصولاً إلى القضاء على هذه الظاهرة عام 1960.
لعلّ لعبة التحدّي للهوية العلمانية ولسياسة إلحاق تركيا بالغرب، تطورت منذ ظهور حزب الرفاه عام 1983، الذي وصل إلى السلطة عام 1996، في ما يشبه الانقلاب على القيم العلمانية. تسلّم رئيس الحزب، نجم الدين أربكان، رئاسة الحكومة، وبدأ بإحداث تغييرات، فتحت أعين المؤسسة العسكرية على نشاطاته «المريبة». ثم ما لبثت أن أزاحته عن السلطة بعد عام واحد، وحلّت حزبه.
لكن تلاميذ أربكان عادوا إلى السلطة، في عام 2002 باسم «العدالة والتنمية»، برؤية جديدة، بعدما حققوا نجاحات في مجالس محلية، على صعيد التنمية ومحاربة الفساد، ولا سيما تميّز أداء رئيس الحكومة، رجب طيب أردوغان، خلال توليه منصب عمدة مدينة إسطنبول، حيث ترك أثراً إيجابياً في الأوساط الشعبية. ومن خلال هذه النجاحات التي قابلها فساد وخلل على الصُعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية لدى الإدارة العلمانية. تمكنت الحركة الإسلامية، من إيصال أحد أبنائها (الرئيس عبد الله غول) مع زوجته المحجّبة إلى قصر الرئاسة العلماني عام 2007، في حدث لم تشهده تركيا منذ سقوط الخلافة العثمانية.


نجم الدين أربكان

ولد نجم الدين أربكان، عام 1926. حصل على الدكتوراه في هندسة المحركات، من جامعة أخن الألمانية، عام 1956. وعمل أثناء دراسته في ألمانيا رئيساً لمهندسي الأبحاث في مصانع محركات «كلوفز ـــــ هومبولدت ـــــ دويتز» في مدينة كولونيا. وتوصل أثناء عمله إلى ابتكارات جديدة لتطوير صناعة محركات الدبابات التي تعمل بكل أنواع الوقود. بدأ نشاطه السياسي منذ الخمسينات، من خلال حزب العدالة، بقيادة سليمان ديميريل.
ونجح، أربكان، الذي اشتهر بانتقاداته لإسرائيل، في إنشاء تجمع من النواب المتديّنين من مستقلين وأعضاء في حزب العدالة، ليكوّنوا جميعاً حزباً إسلامياً هو حزب النظام، في عام 1970 بدعم من الحركة النورسية.
تولى رئاسة حزب الرفاه ورئاسة وزراء تركيا من الفترة بين 1996 و1997.