بدا الرئيسان عبد الله غول ورجب طيب أردوغان، أمس، أستاذين جيّدين للغة التركية، إذ تمكنا من إفهامها للمسؤولين الإسرائيليين خلال فترة لم تتجاوز 48 ساعة. هكذا وجد هؤلاء أنفسهم مكرَهين على «الركوع» والاعتذار الصريح عن إهانة تركيا وسفيرها، بعد يوم من المكابرة أصرّوا في خلاله على أنّ إسرائيل «ستخرج رابحة من الأزمة»
محمد بدير، أرنست خوري
عندما وصلت الأزمة بين سوريا وتركيا عام 1998 إلى حدّ الصدام العسكري، خرج مِن المسؤولين الإسرائيليّين مَن أطلق تصريحاً تحوّل إلى ما يشبه اللازمة السياسية في مقاربة تل أبيب للملف السوري. قال المسؤول الإسرائيلي إن «السوريين يفهمون اللغة التركية»، في إشارة ساخرة إلى ما عدّه تراجعاً سورياً أمام التصعيد العسكري الذي مارسته حكومة أنقرة، في حينه، عبر موافقتها على إبعاد الزعيم الكردي عبد الله أوجلان من أراضيها.
يوم أمس بدا أنّ الإسرائيليين أيضاً تعلموا اللغة التركية جيداً، بالمعنى الذي دأبوا على الإشارة إليه، حين اضطروا إلى الرضوخ أمام الموقف التركي الحاسم بوجوب الاعتذار الخطي والصريح عن الإساءة التي تعرض لها سفير تركيا لدى تل أبيب، أحمد أوغوز تشيليك كول، من كبار المسؤولين في وزارة الخارجية الإسرائيلية.
وعلى الرغم من التسوية التي انتهت إليها حادثة إهانة السفير التركي، إلا أن الأزمة التركية ـــــ الإسرائيلية يبدو واضحاً أنها تخطّت حدود الخلاف الدبلوماسي بين دولتين تعيدان النظر بتحالفهما الاستراتيجي منذ فترة. أزمة لم يعد مفيداً تصنيفها في خانة الخلافات العاديّة «التلفزيونية»، أو في إطار عتب بين أصدقاء ـــــ حلفاء يُترجم عادةً من خلال تبادل المواقف والانتقادات.
المؤشرات كثيرة، في مقدمتها واقعة أن الاعتذار اللفظي المبطَّن، كالذي جاء على لسان صاحب الاعتداء المعنوي على تركيا، نائب وزير خارجية دولة الاحتلال داني أيالون، لم يُجدِ مع حكام أنقرة للصفح عن إهانة لم توجَّه إلى شخص سفيرهم، بل للجمهورية التركية التي تحمل فائضاً من الكرامة الوطنية العزيزة على قلوب جميع مواطنيها، علمانيين كانوا أو إسلاميين، يمينيين أو من أهل يسار. لعل أبرز دليل على ذلك يتمثل في أمرين: الأول، حالة الإجماع التي اجتاحت الطيف السياسي التركي بكل مكوناته على ضرورة الثأر من إسرائيل. أما الثاني، فتدخّل الرئيس عبد الله غول، باعتباره رمز الدولة لا فريقاً سياسياً فيها وحسم الموقف: «أعطيناهم حتى منتصف الليل (الأربعاء ـــــ الخميس)؛ إمّا يصلحون الأمر أو يعود سفيرنا في أوّل طائرة إلى أنقرة صباح الخميس (اليوم) للتشاور. وبعدها، سنقوّم الموضوع ونبحث في إمكان خفض مستوى تمثيلنا الدبلوماسي إلى قائم بالأعمال. سيأتي السفير أولاً ليوجز لنا ما حصل، وعندها سنحدد ماذا سنفعل».
تهديد كان في منتهى الفاعلية: سرعان ما «ركع» الإسرائيليون وأقدموا على خطوة بحجم الإهانة. بعثوا برسالة اعتذار من أيالون نفسه إلى الرئيس غول، بضغط من الرئيس شمعون بيريز ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو. رسالة أهم ما جاء فيها: «احتراماً لطلب الرئيس شمعون بيريز، أعتذر للطريقة التي اعترضت فيها إسرائيل. لم يكن المقصود إهانة شخص السفير، وستُحَلّ جميع الخلافات بين الدولتين باحترام متبادل بين الحكومتين»، مشيرة إلى أن نصّ الاعتذار جاء منسقاً مع نتنياهو ووزير الخارجية أفيغدور ليبرمان.
رد أردوغان جاء مقتضباً. قال إنه «أخذ علماً» بالرسالة الإسرائيلية، مشيراً إلى أن تركيا «نالت الاعتذار المطلوب الذي كان متوقّعاً».
فعل ندامة لم يسبق أن تلاه مسؤول إسرائيلي منذ زمن طويل، حتى بعد «موقعة دافوس» أوائل 2009، التي كان بطلها أردوغان نفسه. وعُدّت في حينه «غير مسبوقة» في التاريخ الطويل والحميم للعلاقات التركية ـــــ الإسرائيلية.
من اليوم فصاعداً، سيُستَشهَد بقضية «السفير التركي»، التي وضعت سقفاً جديداً لما يمكن أن تبلغه حدة التوتر بين الجانبين. بل سقفاً لما يمكن أن تبلغه العجرفة الإسرائيلية، التي يبدو عن حق أنها تعلمت «اللغة التركية». قضية ليست سوى امتداد لتلك «الموقعة» ولذاك العقاب الذي أنزلته أنقرة بتل أبيب في خلال أزمة «نسر الأناضول»، عن ممارساتها في غزة. تماماً كما هي حال أزمة مسلسل «وادي الذئاب»، التي تمثّل امتداداً لمشكلة مسلسل «الوداع».
من شبه المحسوم أن يكون تشيليك كول قد عاد إلى أنقرة، اليوم، للإعداد لزيارة وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك يوم الأحد المقبل، تلبية لدعوة سابقة وجّهها إليه غول. زيارة تعوّل عليها الدولة العبرية جدياً لإصلاح ما يمكن إصلاحه مع «الحليف الذي لا غنى عنه».
إذاً يُرجَّح أن يعود السفير إلى بلاده، وهو الذي وصف التعاطي الإسرائيلي معه بأنه «أسوأ ما حصل معه خلال عمله الدبلوماسي طوال 35 عاماً». ورغم الاعتذار الجلي، لا يزال من غير المعروف ما إذا كان تشيليك كول سيستمر في منصبه في الأراضي المحتلة، بما أنه لمّح إلى أنه «قد لا يعود أبداً».
في جميع الأحوال، حتى لو زار باراك أنقرة، فإنّ أردوغان لن يلتقيه وفق ما أكّد بنفسه. وإذا حصلت الزيارة، يكون ليبرمان قد تلقّى صفعة، بما أنّ تقارير تركية وأخرى عبرية أجمعت على أنّ سلوك أيالون كان بدفع منه، وذلك لإبقاء التوتر بين أنقرة وتل أبيب، وعدم إتاحة المجال لعودة الدفء إلى العلاقات الثنائية كي لا يُسنَح المجال لإعادة إحياء الوساطة بين الدولة العبرية وسوريا.
وسبق لتقارير تركية أن أشارت في اليومين الماضيين إلى أنّ غول وزملاءه يعدّون لاستقبال باراك بحفاوة، كما فعلوا مع زميله في الحكومة، وزير البنى التحتية بنيامين بن أليعازر، «صديق تركيا» الذي جال على المسؤولين الأتراك الشهر الماضي، في ما وُضع في خانة الرغبة التركية بتحسين العلاقات مع تل أبيب. تحسن يستبعد معظم المراقبين أن يرقى إلى «التحالف الاستراتيجي المميز» الذي كان يطبع تلك العلاقات، بما أنّ أسبابه الموجبة زالت من الطرف التركي، بعدما انخفضت الحاجة التركية إلى إسرائيل على نحو ملحوظ مذ قررت أنقرة اعتماد سياسة جديدة إزاء جوارها.
وكان أيالون قد سارع في وقت سابق إلى إصدار بيان وُصف بأنه «اعتذار مبطَّن»، جاء فيه: «لا يزال احتجاجي على الانتقادات التركية لإسرائيل قائماً على حاله»، في إشارة إلى تصريحات أردوغان على السياسة الإسرائيلية إزاء الفلسطينيين، وإلى مسلسل تلفزيوني تركي (وادي الذئاب) صوّر دبلوماسيين إسرائيليين كمجرمين. وأضاف: «مع ذلك، ليس أسلوبي الازدراء من كرامة السفراء. وفي المستقبل سأوضح موقفي بطريقة مقبولة دبلوماسياً ومتعارَف عليها». بيان لم يتضمن كلمة اعتذار، إلا أنه نال رضى نتنياهو الذي وصفه بـ«الاعتذار»، وعبّر عن سعادته لحدوث ذلك.
وجاء في بيان أصدره مكتب نتنياهو: «يشعر رئيس الوزراء بأنّ الاحتجاج الذي وجه إلى السفير التركي كان صحيحاً في الأساس، لكن كان يجب نقله بطريقة دبلوماسية تقليدية». مواقف لم تشفِ غليل وزارة الخارجية التركية التي رأت أنّ بيان أيالون «غير كافٍ».
وعن الأسباب العميقة التي دفعت بحكام الدولة العبرية إلى التعاطي على هذا النحو مع السفير التركي، نقلت صحيفة «إسرائيل اليوم» عن نتنياهو قوله، في محادثات مغلَقة، إن «انزلاق تركيا نحو إيران انزلاقاً منهجياً هو الأمر الذي ينبغي حقاً أن يقلقنا».
أمّا ليبرمان، الذي كان يزور جزيرة قبرص، فواصل تصعيد مواقفه إزاء أنقرة، مشدداً على أنّ دولة الاحتلال «لا تريد أن تتجادل مع تركيا التي نحترمها دولة وشعباً، وهو بالتحديد السبب الذي يجعلنا نتوقع منهم في المقابل أن يتعاملوا معنا بالتقدير والاحترام نفسيهما». أضاف: «لن نتسامح مع أي إشارة معادية للسامية أو استفزاز بحق اليهود. أعتقد أنّ هذا هو السبيل الأفضل، وآمل أن نتمكن من العودة إلى علاقات طبيعية بين بلدينا».
وكانت صحيفة «يديعوت أحرونوت» قد كشفت عن أن الرئيس الأميركي باراك أوباما حاول إصلاح العلاقات بين أنقرة وتل أبيب. ونقلت عن مصادر في واشنطن تأكيدها أنّ الرئيس الأميركي حاول إقناع أردوغان، خلال زيارته إلى واشنطن أخيراً، بتخفيف حدّة انتقاده لسلوك أبيب حيال الفلسطينيين، «إلا أن الرد التركي كان مخيباً للآمال».


تل أبيب يُربكها «الخازوق التركي»: نحتاجهم لا العكس

عكست عناوين وتعليقات الصحف التركية والإسرائيلية، أمس، مدى السخط الكامن في عقول الأتراك إزاء الإهانة الإسرائيلية من جهة، ودرجة الخوف الذي يسكن صنّاع رأي الدولة العبرية من جراء «غباء» نائب وزير خارجيتهم من جهة أخرى

مهدي السيّد
لم تجد الأزمة الدبلوماسية المتجددة بين تركيا وإسرائيل أي منافس في صحف الجانبين؛ إجماع على أنها الأسوأ، واتفاق عام على أنّ الدبلوماسية الإسرائيلية ارتكبت خطأً ستبقى آثاره جاثمة بثقلها طويلاً على خط أنقرة ـــــ تل أبيب.
وانتقد معظم المعلقين الإسرائيليين الأسلوب المهين الذي تعاملت به وزارة الخارجية الإسرائيلية مع السفير التركي، معتبرين ذلك «سخافة دبلوماسية». وفيما اتفق معظم الكتّاب على التحذير من التداعيات السلبية لهذا التصرف على العلاقات بين الدولتين، وعلى الدولة العبرية بالذات، ارتأى قسم آخر تذكير الأتراك بـ«سجلّهم الإجرامي» وتهديدهم بضمّهم إلى «محور الشرّ العالمي».
وعنونت صحيفة «هآرتس» افتتاحيتها بـ«سخافة في وزارة الخارجية». وقالت إن هذه الوزارة فضّلت التركيز على المسلسل التركي (وادي الذئاب) واتهام تركيا بنشر اللاسامية «لأن هذا هدف مريح وأكثر سهولة من التركيز على الانتقاد الموضوعي». ولفتت إلى أن هذا «التوبيخ الدبلوماسي» مأخوذ من «عهد السلاطين حين كانت إهانتهم مظهراً من مظاهر الاستخفاف بدولهم». وأضافت أنه «لإكمال المسرحية، كان ينقص فقط أن يطلب نائب وزير الخارجية داني أيالون من السفير التركي الدوس على علم تركيا». وخلصت إلى أنه «إذا كان وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، مختصاً بالمس المنهجي بالعلاقات الإسرائيلية مع الجيران، فيبدو أن نائبه ينجح الآن في أن يترجم هذه السياسة إلى لغة مسرحية مخجلة».
بدورها، عنونت «يديعوت أحرونوت» افتتاحيتها بـ«الخازوق التركي»، معتبرة أنه إذا كان «الخازوق الذي أعددناه للسفير التركي غير كاف، فينبغي استدعاء السفير الأردني وتوجيه ضربات على رأسه». وسألت «هل فكر أحد ما بإمكان أن ينقل السفير التركي تقريراً مفصّلاً عن الإهانة بالبثّ الحي والمباشر، وأن يستدعيه وزير خارجيته إلى تشاور ممزق للأعصاب في أنقرة؟ كيف نعيد سفيراً استدعي إلى وطنه؟ ماذا نفعل بسفيرنا عندهم؟ هل نطيّره بمبادرتنا أم ندعهم يطيّرونه هم؟».
وحذّرت الصحيفة من أنه «لا ينبغي أن ننسى بأنه عندما يلقي طرف ما حجراً في ماء عكر، فإن ألف حكيم من الطرفين لن يتمكنوا من إخراجه». ولفتت إلى أن ثمة «على الأقل عشرة سبل للإعراب عن الاحتجاج، ولا سيما إذا كان موجِّه الضربة لا يريد أن يحطم الأواني».
وفي السياق، وجّه المدير السابق لمكتب رئيس الحكومة، ايتان هابر، انتقاداً شديداً إلى أيالون. وقال، في مقال في «يديعوت»، إنّ الأخير «يحاول بين الحين والآخر إرضاء رب بيته (أي ليبرمان)، ليكون مشابهاً له». وأوضح هابر أن أيالون «كدبلوماسي قديم ومطّلع على طبيعة العالم، لا بد أنه يعرف أن الكرامة الوطنية (التركية) لا يأخذها أحد». وأضاف أن السفير التركي، مثل أيالون، يعرف ما يعرفه الجميع: «تركيا لا تحتاج إلى إسرائيل. نحن الدولة المحاصرة، نحتاج إلى الأتراك لألف سبب وجيه. علينا أن نشكر الأتراك صبح مساء على ما يقدمونه من مساعدة لنا، حتى عندما يشتمنا رئيس وزرائهم» رجب طيب أردوغان.
وختم هابر مقاله بتوجيه نصيحة لأيالون، مفادها: «في المرة المقبلة، عندما تفتح فمك، انظر يساراً ويميناً وإلى الخلف. إذا رأيت كاميرات، فاغلق فمك. وهذه قاعدة أولى يتعلمونها في دورة المتدربين الدبلوماسيين».
من جهته، رأى مناحيم بن، في «معاريف»، أن أيالون تصرف بحماقة مع السفير التركي. وسأل: «لماذا يجري الأخذ بجميع أنواع الإذلالات المادية المسفّة، فيما نستطيع أن نستعمل كلمات شديدة جداً وأشد فاعلية؟ لماذا لا نُجلس السفير التركي باحترام تام في مقعد مريح مع علم تركيا يرفرف بفخر، وأن نقول له إنه لا شيء عندنا ضده شخصياً، لكن يقيناً لدينا ما نقوله في سلوك حكومته ورئيس حكومته المعادي للسامية». وأوضح بن أنه كان من الأجدى بتل أبيب التركيز على «الجرائم التركية، ونقل الكرة إلى الملعب التركي من خلال فتح سجل جرائمها». وبحسب هذا الكاتب «يجب إعادة تركيا إلى خزّانة عيوبها كي يرى العالم كله جميع جرائم تركيا في الإنسانية. ليشغلوا أنفسهم بجرائم تركيا لا بجرائم إسرائيل».
في المقابل، وجدت الصحف التركية نفسها، على اختلاف انتماءاتها السياسية والعقائدية، في «خندق واحد» إزاء الإهانة الوطنية التي جسّدها التعاطي «غير الأخلاقي» وغير الدبلوماسي الذي لاقاه السفير أحمد أوغوز تشيليك كول في وزارة الخارجية الإسرائيلية قبل يومين.
وعنونت «توداي زمان» المقربة من حزب «العدالة والتنمية» الحاكم صفحتها الأولى بـ«الشتيمة: الدبلوماسية على طريقة ليبرمان»، في إشارة إلى وزير خارجية دولة الاحتلال، الذي حمّلته الصحيفة مسؤولية التعاطي مع السفير، وذلك لمآرب داخلية تتعلق برغبة الرجل بحرق محاولات وزير الدفاع إيهود باراك إصلاح ما يمكن إصلاحه في العلاقات الثنائية.
أما «حرييت»، الأكثر قرباً من العلمانيين والمعارضة الموالية للعسكر، فعنونت «جولة ثانية من مناوشة دافوس التركية ـــــ الإسرائيلية»، لتتبنّى كلام أحد أبرز دبلوماسيي عهد حزب «الشعب الجمهوري»، أنور أويمن، الذي اختصر الوضع، قائلاً إن «كلمة فضيحة ليست كافية للتعبير عن فداحة التصرف الإسرائيلي».
وفي السياق، اختارت صحيفة «وطن» كلمة «إهانة» لصفحتها الأولى، بينما عبّرت زميلتها «جمهورييت»، المتحدثة باسم اليمين المتطرف، عن سخطها بالقول إن «علاقاتنا مع إسرائيل تنهار». أما «صباح»، فأشارت إلى أنّ السلوك الإسرائيلي ليس إلا «مؤامرة رذيلة»، فيما رفعت صحيفة «يني شفق» الإسلامية من سقف مصطلحاتها من خلال مانشيت: «حقارة ولا أخلاق».