قبل 5 سنوات، كانت أوكرانيا على موعد مع «ثورة ملوّنة» هدفت إلى فك الارتباط السياسي عن روسيا. ثورة ألهمت ثورات أخرى، في مقدمتها «ثورة الأرز» اللبنانية. لكن على غرار ما حلّ بالأخيرة، ها هي الانتخابات الرئاسيّة الأوكرانية على وشك إفراز عودة مظفّرة لموسكو إلى كييف

«الثورة البرتقالية» مَن يتذكرها؟



صباح أيوب
يُقال إن العودة من الحرب أسهل من العودة من الثورة. في تشرين الثاني من عام 2004، نزل مليون أوكراني إلى «ساحة الاستقلال» في كييف، معلنين ولادة ثورة سلمية، ومطالبين بإنهاء الفساد، وهاتفين لمرشحهم للرئاسة فيكتور يوتشنكو. عناوين داخلية عامة، كان باطنها ضد الجارة الروسيّة.
في كييف كان المشهد مؤثّراً: شباب ومسنّون افترشوا الأرض ثم سكنوا الخيم لمدة شهر في عزّ البرد والثلوج، هنا شابة تصرخ «أوكرانيا لنا»، وهناك مسنّ يلوّح بالعلم بصمت. استُقدم أهل الريف بحافلات خاصة. لفّ الجميع شالات برتقالية جاهزة طُبع عليها شعار الثورة. لبس الأولاد معاطف برتقالية وقبعات صوف حيكت خصيصاً للحدث وعليها اسم «يوتشنكو». رفع المعتصمون رايات بيضاء وبرتقالية ولافتات كتب عليها «اللصوص إلى السجن» و«نعم يوتشنكو»، وأخرى حملت إشارة ساعة تقول «دقّت ساعة سقوط النظام الحاكم». هتفت الجموع باسم واحد: «يوتشنكو»... «يوتشنكو». وكل من «داوم» في الساحة على مدى 17 يوماً حظي بوجبة طعام أميركية أُعدّت خصيصاً «للثوريين». كما تمتّع المعتصمون بعروض غنائية من فرق فنية جورجية استُقدمت لإحياء ليالي «الثورة».
قفزت أوكرانيا فجأةً إلى الساحة السياسية، وغزا المشهد البرتقالي نشرات الأخبار العالمية كلها. عادت أوكرانيا إلى الخريطة الدولية. خريطة إدارة جورج بوش. الإدارة الأميركية ذاتها التي رعت تحوّل «انتفاضة الاستقلال» اللبنانية إلى ما سُمّي «ثورة الأرز» بين شباط ونيسان 2005. استنسخ نموذج الثورة البرتقالية في لبنان، حيث موّلت الولايات المتحدة مباشرةً، وعبر بعض المؤسسات الخاصة ومؤسسات المجتمع المدني، تحرّكات القوى المعارضة. والهدف هنا لم يكن الفوز بالانتخابات النيابية بل إخراج الجيش السوري من لبنان، وتثبيت نظريّة المعارضة في اتهام النظام الحاكم بالتعاون مع النظام السوري في اغتيال الرئيس رفيق الحريري. اختار المعتصمون السلميون في وسط المدينة اللونين الأحمر والأبيض، واتخذو الأرزة شعاراً لـ«ثورتهم».
لم يعد الأمر خفياً أن «الثورة البرتقالية» بظروفها ومسبّباتها وأموالها ودعايتها كانت من صنع الإدراة الأميركية. 65 مليون دولار هو المبلغ الذي أنفقته الولايات المتحدة لتخلق، قبل عامين من الانتخابات، حركة معارضة في أوكرانيا، حيث يبرز يوتشنكو شخصية أساسية فيها. نحو 14 مليون دولار صرفت خلال موسم الانتخابات وحده. «لم نموّل مرشحين سياسيين مباشرةً بل ذهبت الأموال إلى المؤسسات التي رعت إجراء انتخابات حرّة ونزيهة»، قال المتحدث باسم الخارجية الأميركية حينها ريتشارد باوتشر. المسؤولون الأميركيون لا ينفون إنفاقهم الأموال على الانتخابات الأوكرانية ودعم «الثورة» هناك، لكنهم يردفون أن «الأموال لم تذهب مباشرةً إلى الأحزاب السياسية بل أُعطيت لمنظمات ومؤسسات مدنية». ومن أبرز المؤسسات التي عملت قبل الانتخابات الأوكرانية وخلالها وبعدها: USAID التي أنشأت برامج تعليمية، ونظّمت ورش عمل لتدريب الصحافيين على كيفية تغيير النظام، وThe National Endowment for Democracy (التي تموّل مباشرةً من الكونغرس)، ومؤسسة أوراسيا (الممولة من وزارة الخارجية الأميركية)، وFreedom House ومؤسسة Renaissance ويملكها المياردير جورج سوروس والمموّلة من وزارة الخارجية الأميركية أيضاً... كما أسهمت دول أخرى في دعم «الثورة البرتقالية»، من أبرزها بريطانيا وكندا وسويسرا. وميدانياً، أرسلت أميركا مجموعات لتنظيم الانتخابات والإشراف على فرز الأصوات يوم الاقتراع. وعندما سئلت الإدارة الأميركية عن الأموال التي صُرفت لتمويل «الثورة البرتقالية»، أجابت أن ذلك «جزء من مبلغ مليار دولار سنوي يخصص لبناء الديموقراطية حول العالم».
في 23 كانون الثاني 2005 نصّب فيكتور يوتشنكو رئيساً للجمهورية بعد إعادة للانتخابات. فُضّ الاعتصام، عاد «الثوريون» إلى منازلهم و... انتهى كل شيء.
بعد 5 سنوات على «الثورة البرتقالية» أين هم الثوريون اليوم، وأين أصبحت أوكرانيا الموعودة؟ يُجمع المراقبون على أن الزمن عند الرئيس الأوكراني توقّف لحظة إعلانه رئيساً: يوتشنكو لم يحقّق شيئاً من الوعود التي أطلقها. يرى البعض في أوكرانيا أنّ الفساد لا يزال مستشرياً في إدارات الدولة، وبات يمثّل تهديداً على البلد، كما أن «اللصوص» لا يزالون خارج السجن، والوضع المعيشي متردّ قضت على فرصه بالتحسن الأزمة المالية العالمية. أمّا سياسياً، فقد تخبّط البلد مرات عديدة نتيجة الفوضى السياسية التي لم يستطع يوتشنكو ضبط إيقاعها: الأزمة التي استجدّت بين الرئيس يوتشنكو ورئيسة وزرائه «ملكة الثورة البرتقالية» يوليا تيموتشنكو مباشرةً بعد انتهاء الثورة، ثم فوز الحزب المعارض بغالبية مقاعد البرلمان، وتعيين عدوّ يوتشنكو اللدود، فيكتور يانوكوفيتش، رئيساً للوزراء، وشلل الدولة ثم عودة تيموتشنكو إلى رئاسة الوزراء وعودة الخلافات. حتى القضية الأساس التي لعب عليها الرئيس في «ثورته»، أي قضية تسميمه بمادة الديوكسين، لم ينجح بكشفها أو إنجاز أيّ تقدّم يذكر فيها.
لم تكن أوكرانيا البرتقالية إذاً سوى محطة أخرى من الثورات الملوّنة «صنع في أميركا». بعد صربيا وجورجيا وبيلاروسيا، جاء دور أوكرانيا: السيناريو نفسه والأدوات نفسها والنتيجة متطابقة. الاختلاف كان فقط في اللون. هكذا سرعان ما عادت أوكرانيا إلى طلب رضى «الجارة الكبرى» روسيا، المرتبطة بها بعلاقات اقتصادية وسياسية وأمنية مباشرة.
يُقال إن الثورة لا يمكن أن تعَد إنجازاً إلّا إذا كانت نسبة الآمال التي خلقتها أكبر من اليأس الذي خلّفته. في نيسان 2005، بُعيد «الثورة البرتقالية»، 53.5 في المئة من الأوكرانيين كانوا متفائلين بالمستقبل. في تشرين الأول 2009، بلغت نسبة القائلين بأن أوكرانيا لم تسلك الطريق الصحيح 81.1 بالمئة.
الشعب الأوكراني نادم على «ثورته»، والبلاد أتعبها «الاستقلال».

منافسة على رضى موسكو... والأنفلونزا
ربى أبو عمو
غداً، تعود أوكرانيا إلى لونها الذي طبعته روسيا منذ الاتحاد السوفياتي السابق.
عاشت كييف، خلال السنوات الخمس الأخيرة، تجربة كادت تفصلها عن تاريخها (العلاقة مع روسيا). في عام 2004، شهدت ثورة برتقالية أطلقت مفاهيم الديموقراطية الغربية. ثورة انتهت كغيرها من الثورات، بعدما فقد قائدها ورئيس البلاد فيكتور يوتشنكو سمعته كـ «ثائر».
باتت الألوان موضة قديمة. لم تتغلغل ضمن الحملات الانتخابية التي يقودها مرشحو الرئاسة الأوكرانية استعداداً للنهار الانتخابي. بل انصبّ التركيز على إنقاذ بلد كان الأكثر تضرراً من الأزمة المالية العالمية.
وإلى جانب هذا الهدف، كان لمرض أنفلونزا الخنازير حصته المميزة في مساومة الناخبين للشعب، حتى رأى بعض المتابعين أن الأوكرانيين سيختارون رئيسهم انطلاقاً من خوفهم من المرض. بطلا المبارزة بلا منازع هما رئيسة الوزراء الحالية يوليا تيموتشينكو، وزعيم حزب المناطق المعارض فيكتور يانوكوفيتش. ويبقى من المرشحين الرئيس الحالي، الذي تكاد التقارير الإعلامية المختصة بالانتخابات تنسى وجوده لشدة انخفاض أسهمه، إضافةً إلى رئيس البرلمان السابق، وزير الخارجية السابق، أرسني يتسينيوك.
وبالعودة إلى الأنفلونزا، أغدقت تيموتشينكو على جمهورها الحديث عن خطورة المرض. وسارعت إلى إغلاق المدارس والجامعات لمدة ثلاثة أسابيع، ومنعت التجمعات الجماهيرية، بما فيها الحملات الانتخابية. في المقابل، تعهد يانوكوفيتش، الذي دعمته روسيا في انتخابات عام 2004، تكريس المال المخصّص لحملته الانتخابية لتوفير دواء الأنفلوانزا، إضافةً إلى شراء 20 مليون قناع واقٍ، سيوزّعها على المستشفيات في الأقاليم مجاناً.
وإضافةً إلى الصراع بين تيموتشينكو ويانوكوفيتش على دور المنقذ من المرض، هدّدت رئيسة الوزراء بالاحتجاج على نتائج الانتخابات في المحاكم ما لم يجرِ تعديل القانون للقضاء على احتمال حصول غشّ.
القانون الذي ترفضه تيموتشينكو يسمح للناخبين بالتصويت في منازلهم من دون إظهار سجلاتهم الطبية. بيد أنها سعت في جلسة برلمانية يوم الأربعاء الماضي، من دون أن تنجح، إلى تعديل القانون، وحصره بالناخبين المرضى أو ذوي الاحتياجات الخاصة.
تقود تيموتشينكو حملتها الانتخابية ضمن عنوان «هم يعترضون ـــــ هي تعمل». عارضت وكتلتها في البرلمان القانون الذي وافق عليه يوتشنكو، وينص على زيادة الأجور والمعاش التقاعدي. وبدت ميّالة إلى دفع أوكرانيا نحو مزيد من التكامل مع الاتحاد الأوروبي، مع الحفاظ على علاقات جيدة مع موسكو.
أما يانوكوفيتش، ممثّل التغيير، فيشدّد على العودة إلى النمو الاقتصادي، وتحسين المستوى المعيشي، وتوفير الاستقرار السياسي، ملقياً اللوم على يوتشنكو وتيموتشينكو في المشاكل الحالية التي تعانيها البلاد. كما شدّد على أهمية العودة إلى العلاقات الثنائية بين كييف وموسكو.
من سيفوز في الانتخابات؟ تظهر استطلاعات الرأي أن تيموتشينكو قد تخسر أمام يانوكوفيتش، لتحصل على 19.2 في المئة من الأصوات في مقابل 33.6 في المئة لمنافسها. وترجّح النتائج حصول جولة ثانية من المقرّر إجراؤها في السابع من شباط.
يغادر اللون البرتقالي أوكرانيا. فكرة كتبها أوين ماثيوز وأنّا نيمتسوفا في مقال في صحيفة «نيوز ويك». أسهم اللون سابقاً في تحديد هويّة كييف، فقادها نحو الغربنة ومحاولة الانفصال التاريخي عن روسيا. وبعد مد وجزر وتوترات، تبدو كييف اليوم عاجزة عن الانفصال عن موسكو. ويعود السبب إلى الأهمية الاستراتيجية لأوكرانيا بالنسبة إليها.
ويقول أحد المحللين السياسيين الروس إن أوكرانيا «قضية وجودية. لدينا محللون عسكريون يقولون إنه إذا انضمّت أوكرانيا إلى حلف شماليّ الأطلسي، تنتهي فرصة دفاعنا الأخير ضد أيّ حالة طوارئ عسكرية».
وفي قمة حلف شماليّ الأطلسي عام 2008، قال فلاديمير بوتين (بصفته رئيساً)، لنظيره الأميركي حينها جورج بوش: «أنت تدرك، جورج، أن أوكرانيا ليست مجرد دولة. ما هي أوكرانيا؟ جزء من أراضيها في أوروبا الشرقية، وجزء آخر وهو مهم، أُعطي من جانبنا».
أهميّة أوكرانيا بالنسبة إلى روسيا تكمن في أنها تمثّل دولة عازلة قادرة على صد توسّع حلف شماليّ الأطلسي باتجاه روسيا. كما تطل على موانئ المياه الدافئة في شبه جزيرة القرم، مثل أوديسا ويالطا وسيفاستوبول، الذي يستضيف أسطول البحر الأسود الروسي. وبالتالي، تعدّ أوكرانيا منطقة حيوية للحفاظ على وجود البحرية الروسية في البحر الأسود. وقد سعت الولايات المتحدة إلى السيطرة على أوكرانيا من خلال الثورة البرتقالية وضمّها إلى حلف شماليّ الأطلسي لإنهاء روسيا، التي عرفت كيف توظّف عامل الغاز، الذي توفّره لكييف، حتى تدرك الأخيرة مدى حاجتها إلى موسكو.
ومع فشل الرئيس في الاحتفاظ برصيده الشعبي في ظل أزمة اقتصادية خانقة، وانحصار المنافسة بين تيموتشينكو ويانوكوفيتش، تبدو روسيا الرابح الأكبر. فزعيم المعارضة موالٍ لموسكو، فيما أدركت رئيسة الوزراء أن العصا لا تمسك من الوسط، بل يجب أن تميل دائماً إلى صاحبها الأصلي.