باريس ــ بسّام الطيارةمنذ اللحظات الأولى التي تلت إعلان الكارثة الطبيعية التي حلّت بجمهورية هايتي، والتي قُدّر عدد ضحاياها حتى الآن بما بين 40 و50 ألف قتيل بحسب منظمة الصحة العالمية، برز إلى الواجهة «تنافس أميركي فرنسي صامت» للفوز بالدور الأول بعمليات الإغاثة. والأسباب ليست سياسية فقط، أو تتعلق بالتنافس على موقع «أسرع ردة فعل في العالم»، وهو سباق يحبّذه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي كان أول من أرسل وزيره لشؤون التعاون آلان جواياندي على متن أول طائرة وصلت إلى العاصمة المنكوبة بورت أو برانس، بل تتعلق أيضاً بالتاريخ والعلاقات الإنسانية التي تربط الدولتين بجزر البحر الكاريبي.
بدأ هذا التنافس «الدافئ» يطفو على سطح الإعلام، ويزيد من توتر أعصاب الدول المشاركة في عمليات الإنقاذ. فقد أعلن جواياندي أنه قدم احتجاجاً رسمياً للسلطات الأميركية التي وضعت يدها على إدارة المطار الدولي لهايتي، بسبب منعها طائرة محملة بمستشفى طوارئ من الهبوط، ما اضطرها إلى العودة إلى جزيرة غوادلوب الفرنسية.
وحاول المتحدث الرسمي برنار فاليرو التغطية على ردة فعل الوزير الفرنسي بالقول إن «التعاون والتنسيق هو في أحسن حال»، بينما أعلن وزير الخارجية برنار كوشنير أنه «لم يُقدَّم أي احتجاج بشأن إدارة المطار!».
رغم هذا، فإن بعض الإرساليات والجمعيات الناشطة في المناطق المنكوبة تشير إلى وجود «حساسية كبيرة بين الفرنسيين والأميركيين»، وهو ما يمكن أن يفسر إعلان وزارة الخارجية المكسيكية عن مبادرة لدعوة مجلس الأمن إلى اجتماع سيُعقد يوم غد الاثنين.
يأتي هذا في وقت أعلنت فيه واشنطن إرسال نحو عشرة آلاف جندي إلى هايتي. وطمأنت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون إلى أن الولايات المتحدة ستعمل مع الحكومة لضمان أن تخرج البلاد أقوى.
وفي الواقع، فإن الاستعمار الفرنسي كتب تاريخ العلاقة مع هايتي، التي تُعَدّ «أول دولة عبيد مستقلة» بعدما ثارت عام ١٨٠٤ على نابوليون بونابرت وأعلنت استقلالها، لكنها أبقت علاقات قوية جداً مع فرنسا الثورة آنذاك. وحتى سنوات قليلة، كانت باريس الشريك الاقتصادي الأول لبورت أو برانس، عاصمة «أفقر دول العالم».
أما واشنطن، التي تدخلت في جمهورية الدومينيكان عام ١٩٦٥، فرأت في الوجود الفرنسي بالمنطقة تدخلاً في «حديقتها الخلفية»، وخصوصاً أن هايتي، إلى جانب المقاطعات الفرنسية (مارتينيك وغوادلوب)، هي الوحيدة التي تتكلم اللغة الفرنسية.
ولا تقتصر العلاقة مع فرنسا على تصدير صناعات السكر والأنديغو، بل تتمدد إلى العلاقات الإنسانية. ويكفي التذكير بأن الكاتب الفرنسي الشهير ألكسندر دوماس هو هايتي الأصل. وفي فرنسا نحو ١٤٠ ألف نسمة من أصول هايتية، فيما يبلغ تعداد المهاجرين إلى الولايات المتحدة مليونين هايتي، بينهم ٦٠٠ ألف في نيويورك.
ولا تتوقف المنافسة بين فرنسا والولايات المتحدة على أرقام المهاجرين، بل كشفت الكارثة الأخيرة أن هايتي، بسبب فقر اقتصادها، باتت في طليعة الدول التي تُصدِّر «يتامى للتبني»، إذ يقيم على أرضها ٦٠٠ ألف يتيم، حسب إحصاءات ظهرت قبل الزلزال، وفرنسا والولايات المتحدة تتنافسان على المركز الأول لتبني أولاد من هايتي. وحسب آخر أرقام حصلت عليها «الأخبار» من وزارة الخارجية الفرنسية، فإن عدد طلبات التبني قيد الدرس هي حالياً ١٥٠٠.
وفيما باتت هايتي الدولة الأولى لمصدر تبني الأطفال في فرنسا وترسل سنوياً نحو ٧٠٠ طفل، فإن واشنطن تسعى بقوة إلى تسهيل تبنّي أطفال هايتي، رغم تشديد قوانين الهجرة. ومن المنتظر أن يزداد عدد اليتامى بعد كارثة هذه السنة.
ويفسر علماء الديموغرافيا هذا التنافس، بأن الدول المتقدمة، وخصوصاً «دول الهجرة»، تعلم أن «جذب دم جديد» لمجتمعاتها يضخ قوة فيها ويعطي دفعاً لاقتصادها، وخصوصاً في ظل تراجع نسب الولادة.