لم يكن اغتيال العالم النووي الإيراني مسعود علي محمدي، في قلب طهران، الأسبوع الماضي، سوى حلقة في مسلسل من الحروب الخفيّة، التي تدور بين إيران والغرب. هي حرب باردة على مستوى الرصد والاستطلاع، لكنها في الواقع، تشتد سخونة حين يتطلب الموقف السياسي ذلك. لعلّ ما شهدته إيران من تطورات أمنية خلال الأشهر الأخيرة، أحد تجليّات هذه الحرب
معمر عطوي
حملت الانتخابات الرئاسية الإيرانية، في حزيران الماضي، تطورات دراماتيكية إلى المشهد السياسي في البلاد، مع تصاعد وتيرة التجاذب الدولي بشأن البرنامج النووي الإيراني، الذي فشل الغرب حتى الآن في إيقاف عجلة سيره نحو الأمام.
ولم يكن اغتيال أستاذ الفيزياء النووية في جامعة طهران مسعود علي محمدي، الأسبوع الماضي، سوى حلقة في سلسلة هذه الحرب الغامضة. بعد هذه العملية، التي حمّلت السلطات مسؤوليتها لمنظمة «مجاهدي خلق»، اغتيل هذا الأسبوع أيضاً المدعي العام لمدينة خوي (شمال غرب) على أيدي متمردين أكراد، بعد نحو ثلاثة أشهر من مقتل نائب قائد سلاح البر في الحرس الثوري الجنرال نور علي شوشتري، إلى جانب 35 شخصاً، في عملية انتحارية بمدينة زاهدان عاصمة إقليم سيستان بلوشستان (جنوب شرق)، أعلنت منظمة «جند الله» البلوشية مسؤوليتها عنها.
انطلاقاً من هذه الوقائع، يبدو أن جانباً من هذه الحرب السريّة يُخاض بأيدٍ إيرانية، ما يعزز اتهامات السلطة للغرب بتوظيف النزاعات الإثنية والمذهبية في إيران، لمصلحة خطتها في زعزعة النظام الإسلامي من الداخل، بعدما عجزت عن إخضاعه بالعقوبات الدولية والحصار.
اختطاف شهرام أميري أعاد إلى الأذهان شريط تصفية علماء العراق قبيل الغزو
ثمة ثورة مخملية تقودها واشنطن ومن خلفها دول الغرب، وتباركها إسرائيل. ثورة يمكن أن تتمثّل في ما شهدته شوارع طهران، خلال الأشهر الأخيرة، على خلفية التشكيك في نتائج الانتخابات الرئاسية التي أعادت محمود أحمدي نجاد رئيساً لولاية ثانية.
بيد أن القطبة المخفيّة في المواجهة تتعدّى الاغتيالات وعمليات التفجير والتخريب والمشاغبة، إلى عمليات اختطاف متبادلة لشخصيات في مواقع حساسة. يأتي ذلك في سياق مواجهة أمنية حامية، لا يُدرك خطورتها إلّا الراسخون في علم الاستخبارات وجهابذته. ولعلّ اختفاء العالم النووي الإيراني شهرام أميري، في السعوديّة صيف العام الماضي، يؤكد طبيعة تشابك المصالح الاستخبارية بين دول عربية وغربية، في محاصرة إيران والضغط على نظامها.
فاختطاف أميري، الذي أعاد إلى الأذهان شريط تصفية علماء العراق قبيل الغزو الأميركي وبعده، يذكّر بحادثة اختفاء النائب السابق لوزير الدفاع الإيراني والمتخصص في برنامج الصواريخ البالستية، محمد علي أصغري، في تركيا ربيع عام 2007، الذي لم تُكشف آثاره حتى اليوم. وفي العام نفسه، قُتل مسموماً العالم النووي أردشير حسين بور، الذي كان يعمل في منشأة أصفهان لتخصيب اليورانيوم.
اللافت أن الغرب يروّج عبر تقاريره الإعلامية أن العلماء المختفين انشقّوا عن النظام وفرّوا إلى الغرب، حيث الحرية و«اللبن والعسل». إلّا أن عدم ظهور أيّ من هؤلاء في شريط تلفزيوني أو مؤتمر صحافي، يدحض ادّعاءات الغرب، ويؤكد في الوقت نفسه عمليات الاختطاف القسري.
في المقابل، اختفى العميل السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي (أف بي آي)، بوب ليفنسون، أثناء رحلة إلى جزيرة كيش الإيرانية، في 2007، ولا يزال مصيره مجهولاً، فيما أعلنت طهران احتجاز ثلاثة أميركيين دخلوا البلاد بصورة غير قانونية من العراق.
أمّا في ما يتعلّق بالحرب السريّة على إيران، بعد غياب شروط إمكان شنّ حرب على مفاعلاتها النووية، فقد أعلن الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، في عام 2007، توجهات جديدة لدى إدارته، تقضي بدعم ثورات ناعمة داخل إيران، ومجموعات تعمل على زعزعة النظام من داخله. هذا التصوّر أكده الصحافي الأميركي سيمور هيرش، في تقرير نشرته «نيويوركر» في تموز عام 2008. يقول التقرير إن الولايات المتحدة رصدت سرياً مبلغ 400 مليون دولار لتمويل عمليات ضد إيران. وتحدث هيرش عن قيام متمردين من حزب الحياة الحرة الكردي «بيجاك»، ومنظمة «مجاهدي خلق»، ومنظمة «جند الله» البلوشية، بتأليف مجموعات مسلّحة لتنفيذ هذه العمليات، التي «أضحت أكثر أهمية واتساعاً». في ذلك العام، كشفت تقارير إعلامية إيرانية عن لقاء سري جمع بين 10 ضباط استخبارات أميركيين و4 مسؤولين من «بيجاك»، في فندق بمدينة السليمانية العراقية.
وفي نيسان من عام 2008 أيضاً، تحدثت صحيفة «لوس أنجلس تايمز» الأميركية عن التحولات التي تطرأ على المجموعات الانفصالية على طول الحدود الإيرانية، مشيرة إلى أن بعض التنظيمات الانفصالية «طلبت مساعدة أو رحّبت بتلقّي دعم وأسلحة من الولايات المتحدة لمحاربة الحكومة الإيرانية».
ومن الإيرانيين من عمل لمصلحة إسرائيل، مثل علي أشتري، الذي أعدمته السلطات الإيرانية، فيما اعتُقل المفاوض النووي حسين موسويان، في قضية التجسس النووي الشهيرة، عام 2007.
الاستخبارات الإسرائيلية لا تعرف النوم بسبب فشلها في تأخير النووي الإيراني
وعن دور إسرائيل في هذه الحرب، نشرت صحيفة «وول ستريت جورنال»، في 16 أيار الماضي، مقالاً لمراسل صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية، رونين بيرغمان، تحت عنوان «الحرب السريّة الإسرائيلية مع إيران»، تحدّث فيه عن اختراق أمني إسرائيلي للنظام الإسلامي وسوريا وحزب الله وحركة حماس. ويقول بيرغمان في مقاله إنه «في الأعوام الأربعة الأخيرة، أُخّر البرنامج النووي الإيراني بسبب سلسلة أحداث واضحة؛ اختفاء عالم نووي إيراني، تحطّم طائرتين تحملان مواد على صلة بالبرنامج النووي وانفجار مختبرين، إضافة إلى كشف المعارضة الإيرانية في المنفى معلومات موثوقة جداً عن تفاصيل البرنامج النووي الإيراني، ما أدى إلى وضع عوائق أمام طهران، وسرّع وأسهم في بدء عمليات التفتيش التي تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية» لمفاعلات نووية إيرانية.
ويشير بيرغمان، وهو صاحب كتاب «الحرب السريّة مع إيران»، إلى تفجير «غامض في موقع عسكري لإنتاج صواريخ سكاد برؤوس نووية على الأراضي السورية، يديره إيرانيون وسوريون، في تموز عام 2007».
ويضع الكاتب الإسرائيلي هذا الحادث إلى جانب اغتيال القائد العسكري في المقاومة الإسلامية اللبنانية الشهيد عماد مغنية في دمشق، في شباط 2008، ضمن سياق الحرب الخفيّة على إيران وسوريا.
ولا شك في أن هذه الحرب لم يكن مداها إيران فقط، بل أينما أمكن ضرب مصالح لإيران في العالم، وخصوصاً تلك التي تتصل بالقضية الفلسطينية؛ اغتيال الجنرال السوري محمد سليمان في شهر آب من عام 2008، باعتباره أهم ضباط الارتباط مع حماس وحزب الله، لا بد أنه يأتي في هذا السياق. ولا ينفصل عن ذلك تدمير قافلة قيل إنها كانت تنقل أسلحة من إيران إلى قطاع غزة، على الأراضي السودانية، في كانون الثاني من العام الماضي. والمفاجأة هنا، أن من قام بعملية الهجوم هو سلاح الجو الإسرائيلي.
ويعترف بيرغمان بأن قيادة الاستخبارات الإسرائيلية لا تعرف النوم هذه الأيام، بسبب فشل محاولات إسرائيل والغرب في تأخير المشروع النووي الإيراني.
يضاف إلى ذلك طبعاً التقارير التي تفيد بأن «الموساد» طالما جنّد يهوداً إيرانيين خلال زياراتهم الدورية لعائلاتهم في إسرائيل، التي ينتقلون إليها عبر تركيا، حيث يستحصلون من السفارة الإسرائيلية على تصريح دخول منفصل عن جوازات سفرهم الإيرانية.
وتتوالى الأحداث الأمنيّة، لتصل إلى ذروتها مع اضطرابات حزيران الماضي، التي بدأت على خلفية نتائج الانتخابات الرئاسية، ووُظّف جانب منها لمصلحة مشاريع الاستخبارات ضد إيران. أحداث حرّكت لدى الغرب الشعور بالحنين إلى الثورات المخملية والفتنة الداخلية.
لذلك، كانت اتهامات الحكومة الإيرانية لواشنطن ولندن وبعض وسائل الإعلام الغربية، تشير بوضوح إلى ما تمخّضت عنه الحروب السريّة ضد نظام الملالي. فالسلطات الإيرانية عززت اتهاماتها هذه باعتقال عدد من الصحافيين والأكاديميين الإيرانيين والأجانب، الذين «اعترفوا» بأن لهم علاقات مع بعض الشبكات المعارضة والأجهزة الاستخبارية في الخارج.
في المقابل، حكمت محكمة بريطانية على الضابط دانيال جيمس، الذي عمل مترجماً لدى قوات حلف شمالي الأطلسي في أفغانستان، بالسجن عشر سنوات بعد إدانته بتهمة التجسس لحساب إيران.
وفي عام 2007 أيضاً، طردت السلطات الفرنسية الطالب الإيراني فرشاد مباشر فرد (28 عاماً)، الذي يتابع دروسه في مدرسة الألغام في باريس، بعد الاشتباه في نشاطه التجسسي.
كذلك اعترف الطبيب النفسي الإسرائيلي ديفيد شامير، في عام 2008، بالتخابر لمصلحة إيران.
إضافة إلى ذلك، اعتُقل عدد من الأكاديميين الأميركيين من أصل إيراني بتهم التجسس. لكنّ السلطات أفرجت عنهم بعد فترات معينة، بكفالات مالية. وربط بعض المحللين احتجاز هؤلاء باختطاف قوات الاحتلال الأميركية في العراق لخمسة إيرانيين بتهمة تقديم الدعم للمقاومة العراقية، في عام 2007.


الـ«سي آي إيه» والثورة

يكشف تقرير لمجلة «سرّي جداً»، الدوريّة الألمانية المتخصصة في الأمن، صدر في عام 2005 تحت عنوان «سي آي إيه» ضد إيران، أن الإدارة الأميركية بدأت تسعى، إثر نجاح ثورة عام 1979، إلى تعويض علاقاتها الأمنية التي فقدتها مع جهاز «السافاك»، من خلال إعادة هيكلة المجموعات وشبكات الاتصال والتجسس، التي ضمّت مسؤولين وضباطاً وعناصر سابقين في الجيش والاستخبارات الإيرانيين.
ويشير التقرير إلى علاقة أول رئيس جمهورية في عهد الثورة، أبو الحسن بني صدر (الصورة)، مع الـ«سي آي إيه»، والتي اكتُشفت، ما دفعه إلى الفرار خارج البلاد. وينقل عن أحد الدبلوماسيين الأميركيين، وكان ضابطاً للأمن، عزم واشنطن آنذاك على تأليف قوة كردية مؤلفة من 30 ألف عنصر، للعمل على إضعاف الثورة.