لا يمكن الحديث عن تركيا، عن أوضاعها الداخلية كما عن سياساتها الخارجية، من دون التعريج على جيشها وأدواره غير المحدودة في السياسة والمجتمع والاقتصاد والثقافة، وفي كل شيء. جيش رقيب وقاضٍ وحكم يمانع أمام العصر الجديد ويرفض التحوّل إلى «جيش طبيعي» يأتمر بالسياسيين ويحاكَم أمام قضاة مدنيّين بموجب دستور وقانون مدنيّين
إعداد: أرنست خوري
من بين الأمور القليلة التي لم تتغيّر في تركيا، منذ كانت سلطنة عثمانية حتى أضحت جمهورية، دور عسكرها. الباشا العثماني، كما الجنرال بالبزة الأوروبية، يتعلّم ويعلّم في الكليات العسكرية عقيدة مفادها بأنّ الجنود «سادة تركيا ومخلّصوها». مصطلح «التهديد القومي» عندهم مطّاط للغاية، فحتى لو كان مصدره ربع أو نصف الشعب (الأكراد والإسلاميون والشيوعيون)، يجب استئصاله. ثقافة تجعل من تقليد الانقلابات العسكرية «موروثاً بيولوجياً ينتقل إلى الأجيال كالكروموزومات»، على حدّ تعبير الكاتب في صحيفة «طرف» أحمد ألتان.
جعل التاريخ من الجيش التركي دولتين: الأولى علنية، هي عبارة عن مؤسسات وصلاحيات وسلطات سياسية واقتصادية، عبّدت لها الدساتير التركية الطريق لتؤدي دور «أمّ الصبي»، كما أرادها مصطفى كمال منذ 1937. الثانية سرية، أو «دولة عميقة» مرتبطة بإحدى أشهر المنظمات السرية في القرن العشرين، «إرغينيكون». الأولى أوكلت لنفسها مهمة «هندسة المجتمع» على صورة الجيش ونظاميته، والثانية وُلدت في ظروف الحرب الباردة لمواجهة الخطر الشيوعي، ولم يعد ممكناً السيطرة عليها في ما بعد لتنكشف على صورة عصابات تحاكَم أمام القضاء منذ 2007. محاكمة يراها البعض غير كافية لمحاسبة جيش حكم بقبضة حديدية حقبة كاملة، ولا يستسيغ تقبّل واقع جديد عنوانه: حان الوقت لانتهاء دور العسكر في السياسة والعودة إلى الثكن وتنفيذ أوامر المدنيين.
دور يرى البعض أنه لن ينتهي بالكامل، مهما بلغت الجهود الإصلاحية لحكومات رجب طيب أردوغان، إلا بإقرار دستور جديد تماماً، تستهله مقدمة تتحدث عن «حاملي الجنسية التركية المتساوين بغضّ النظر عن انتمائهم الاثني والمذهبي»، وتختمه مواد تنتزع من العسكر جميع صلاحياته التي تمتّع بها منذ ولادة الجمهورية. دستور مدني يُبقي الجيش «حامي الدستور والجمهورية والعلمانية والوحدة الوطنية»، لكن تحت إمرة السلطات السياسية.
والجيش في تركيا «وُلد ليحكم». أقل بقليل من مليون عنصر وضابط. ثاني أكبر جيش في حلف شمالي الأطلسي. ثامن أكبر جيش في العالم. أسّس الجمهورية على أنقاض السلطنة. خاض الحروب المصيرية نيابة عن الشعب فنال ثقته. اختار في ظروف الحرب الباردة الانحياز إلى المعسكر الغربي، فحكم في الداخل وبنى كامل سياساته الخارجية على هذا الأساس، آملاً أن يسلّم يوماً ما السلطة إلى مدنيين، لكن في تركيا أوروبية لا «خطر» إسلامياً يهددها، ولا «كابوس» كردياً يتربّص بها، ولا طيف شيوعياً يحوم فوقها. منذ البداية، كلّف الجيش نفسه تأدية دور القاضي، فانقضّ على من رأى فيه خطراً على إرث أتاتورك بانقلابات أربعة، كادت تصبح أكثر بكثير. وضع «دساتير عسكرية» ومنح نفسه سلطات لا حدود لها. تحوّل مع الوقت إلى عملاق اقتصادي وشرطي أخلاق وناظم للحياة السياسية. لكن الزمن تغيّر، وإن تأخّر. انتهت الحرب الباردة ومعها عداوات الأمس. ملف عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي بات على النار. اقتنع الجميع بأنه لا حل عسكرياً للقضية الكردية. صورة الجيش الفادي في عقول الأتراك شوّهتها فضائح وجرائم خُرافية. صار الإسلام السياسي حالة عامّة أوصلت حزباً إسلامياً معتدلاً إلى الحكم بدعم شعبي غير مسبوق. باختصار، لم يبقَ لتركيا إلا أن تقرّ دستوراً جديداً يختم حكم العسكر بالشمع الأحمر.
ومنذ تأسيس الجمهورية حتى اليوم، حُكمت تركيا بدساتير شبه عسكرية وضعها الجيش بعد انقلابات الأعوام 1960 (ضد حكومة عدنان مندريس بتهمة توسيع الحرية للإسلاميين والتقرب من الاتحاد السوفياتي) و1971 (خوفاً من وصول الشيوعيين إلى السلطة) و1980 (ضد سليمان ديميريل إثر مواجهات بين القوميين والاشتراكيين والشيوعيين) و1997 (انقلاب ناعم ضد أبي الإسلام السياسي في تركيا نجم الدين أربكان).
وحتى اليوم، لا يزال هذا البلد محكوماً بدستور 7 تشرين الثاني 1982، الذي يولي الجيش مهمة «الدفاع عن الأمن الخارجي والداخلي للبلاد». فقرة كانت كافية لأن تعطي الجيش «الحق الحصري» في الإشراف على السياسة الخارجية للبلاد على قواعد باتت بمثابة لازمات سياسية، من نوع «لا صديق لتركيا إلا التركي»، و«عقدة الذئب» بما أنّ تركيا دولة محاطة بالأعداء (روسيا والدول العربية وإيران وأرمينيا واليونان). وفي الداخل، أتاح هذا المبدأ الدستوري للجيش التصرف بأحوال البلاد انطلاقاً من أنّ أعداء الداخل (الإسلاميين والأكراد والشيوعيين) يسعون إلى تولّي الحكم لتغيير صورة البلاد وقيمها الجمهورية العلمانية الحداثوية.
ولا يزال للجيش ممثلون في مؤسسات لا علاقة له فيها من حيث المبدأ، كالقضاء (المحكمة الدستورية «محكمة فوق العادة») وفي الإعلام (المجلس الأعلى للمرئي والمسموع RTUK) وفي التربية والتعليم (المجلس الأعلى للتعليم YOK).
كما لا يزال «بروتوكول التعاون للأمن والانتظام العام» سارياً منذ الانقلاب «الما بعد حداثي» في 28 شباط 1997 ضد أربكان، ويتمتع بقوة الدستور ويسمح للجيش وللاستخبارات بتجميد أي نشاط في البلاد من دون نيل موافقة السلطات المدنية.
ولا يمكن الحديث عن الصلاحيات الدستورية للجيش من دون التوقف عند المؤسسة الأهم، وهي مجلس الأمن القومي. كثر يعدّونه بمثابة الحكومة الفعلية في تركيا، وخصوصاً أنّه يصدر «قرارات يوليها مجلس الوزراء أولوية مطلقة»، قبل أن يصدر التعديل الدستوري في عهد «العدالة والتنمية» وتصبح الصيغة «يصدر قرارات يخضعها مجلس الوزراء لتقييمه» ليقرر تبنّيها أو رفضها. كان العسكر يحتلّ فيه غالبية الأعضاء، لكن بعد التعديلات الدستورية صار عدد أعضائه 7 مدنيين في مقابل 5 عسكريين (في مقابل 4 مدنيين فقط قبل 2003)، وبات أمينه العام مدنياً (منذ 2006) وتابعاً لرئاسة الحكومة لا لقيادة الجيش، وأصبح للمجلس دور استشاري لا تنفيذي كما كانت عليه الحال. يرأس هذا المجلس اليوم رئيس الجمهورية ويتألف من عضوية رئيس الحكومة ونوابه ورئيس الأركان ووزراء الدفاع والداخلية والخارجية وقادة فرق البحر والجو والبر في الجيش والقائد العام للشرطة.
كانت صلاحيات مجلس الأمن القومي تشمل تقريباً كل شيء؛ فهي بموجب دستور 1982، تغطّي القضايا العسكرية والسياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية، بالإضافة طبعاً إلى «حماية المبادئ الكمالية». لكن بعد التعديلات، أصبحت تقتصر على «القضايا التي تتعلق بالمحافظة على وجود الدولة واستقلالها وعلى سلامة أراضيها وعدم قابليتها للتجزئة وعلى سلامة المجتمع وأمنه».
في جميع الأحوال، ينظر البعض بإيجابية إلى وجود مجلس الأمن القومي لأنه المكان الذي تُنظّم فيه، مرّة كل شهرين بدل مرة كل شهر، العلاقة بين العسكر والمدنيين، بدل أن يكون الانقلاب العسكري لغة تلك العلاقة، وخصوصاً أن في قيادة الجيش منذ 2008، إلكر باسبوغ، الذي فهم أن أمجاد العسكر بنسختها القديمة انتهت، فقرّر انتهاج سلوك التهدئة مع حكّام «العدالة والتنمية» الذين بادلوه التعامل بالمثل.
وإلى جانب مجلس الأمن القومي، يتسلّح الجيش بـ«المجلس العسكري الأعلى» الذي يصدر قرارات غير قابلة للاستئناف، وتنحصر مهمته في اجتماعه السنوي الوحيد الذي يعمل في خلاله كقاضٍ يقيّم «مدى التزام» ضباط الجيش، وخصوصاً أعضاء مجلس الأمن القومي، بقيم العلمانية. ويحق له إقصاء أي عضو في مجلس الأمن القومي من منصبه وطرده من الجيش حتّى، من دون أن يكون للضابط المعني أي وسيلة للدفاع عن نفسه أو لمراجعة الحكم المبرَم.
ويعيش الجيش التركي استقلالية مطلقة عن كل المؤسسات الدستورية. حتى إنّ موازنته (نحو 20 مليار دولار للعام الجاري) لا تزال خارجة عن نطاق الموازنة العامة، وبالتالي لا رقابة ولا تصديق برلمانياً عليها. ولفت تقرير لمجلس الشيوح الفرنسي عن ترشح تركيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي عام 2004 إلى أنّ «لا أحد رسمياً يمكنه أن يجزم بحجم موازنة الجيش، إلا أن التقديرات تشير إلى أنها تناهز الـ20 في المئة من الموازنة العامة».
لكن في عهد «العدالة والتنمية»، بات بمقدور محكمة الحسابات، بطلب من البرلمان، التدقيق بحسابات الجيش. حتى لو بات البرلمان قادراً على مراقبة موازنة الجيش، فهو ملزم بأن يبقي تحقيقاته البرلمانية «سرية».
لكن بعيداً عن القوة الدستورية التي جعلت الجيش «يعمل في جميع الميادين إلا العسكرية منها»، وفق الصحافي في «ستار» محمد ألتان، تستمد المؤسسة العسكرية نفوذها من شعبية تاريخية ومن أدوار تتصل بالحياة الاجتماعية للمواطنين. فالجيش التركي «شعبي»، ولا يزال بالنسبة إلى الأتراك، رغم فضائحه الكثيرة، أكثر المؤسسات التي يثق بها لأسباب عديدة: دوره الاقتصادي والاجتماعي في المحافظات والقرى من تقديم مساعدات طبية واجتماعية وأشغال عامة وأعمال إغاثة وفتح مدارس. دور لا يقل أهمية يتجسّد في أنّ عدداً كبيراً من الأتراك يرون أنه الوسيلة الأفضل للترقّي الطبقي والاجتماعي.
أما في الاقتصاد، فدوره تاريخي من ناحية أنّه أدار، بالنيابة عن المؤسسات الحكومية، كامل النشاط الاقتصادي في شباب الجمهورية، ولا يزال حتى اليوم أحد أهم أعمدة الاقتصاد التركي. فمنظمته الأساس «أوياك»، شركة عملاقة أنشئت أساساً في 1961 لدعم عناصر الجيش وعائلاتهم مادياً، عن طريق اقتطاع 10 في المئة من رواتب الجنود والضباط وتوظيفها في النشاطات الاقتصادية. لكنها مع الوقت باتت تضم 28 مؤسّسة يعمل فيها أكثر من 30 ألف موظف، حتى أصبحت أحد عمالقة الاقتصاد بما أنها باتت تملك نحو 49 في المئة من أسهم الفرع التركي من شركة «رينو» الفرنسية. كما أنها المنتِج الأول للاسمنت في البلاد، وتملك «مصرف أوياك» الذي يعدّ من أهم المؤسسات المالية في البلاد، إضافة إلى مصانع مواد غذائية وشركات تأمين ومؤسسات سياحة بلغ رقم أعمالها عام 2001 نحو 3 مليارات دولار.
ومن أهم مصادر قوة الجيش التركي في الاقتصاد، «مؤسسة دعم القوات المسلَّحة» TSKGV، وهي التي تحتكر الصناعات الحربية، وتملك أكثر من 30 مصنعاً ومؤسّسة ملحقة بها تشغّل أكثر من 20 ألف موظف. ومن أهم عناصر قوة الجيش التركي أنه يستفيد من ضرائب عديدة تذهب عائداتها إليه مباشرة، كالضريبة على البنزين التي لا تمر على تصويت البرلمان، بل على رقابته فقط منذ 2003.
أما أبرز العوامل التي قزّمت دور الجيش، فيمكن اختصارها بالآتي:
ـــــ ملف عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، بما أنّ معظم المعايير الأوروبية المفروض تلبيتها، والتي يجتمع قسمها الكبير في «معايير كوبنهاغن»، تنصّ على رقابة الجهاز المدني على العسكر، بعكس ما هو حاصل في تركيا. من هنا اكتسبت الجهود الإصلاحية للحكّام الجدد في أنقرة مشروعية شعبية، وخصوصاً أنّ أردوغان ورفاقه اهتموا بتجنّب أي صدام مع العسكر، لأسباب عديدة، بينها علمهم بمقدار الاحترام الذي لا يزال يكنّه الشعب لجيشه.

يستمدّ قوّته من الدستور والاقتصاد والتاريخ وثقة المواطنين و«غسيل الأدمغة»

انتهاء الحرب الباردة وتقدّم الملف الأوروبي وتغيّر السياسة الخارجية، سحبت البساط من تحت أقدام العسكر

ـــــ التغيّر الذي طرأ على وجهة الدبلوماسية التركية وانتهاء أجواء الحرب الباردة في السياسة الخارجية وطيّ صفحة العداوات الكثيرة مع الجوار، وانتزاع المدنيين من الجيش، الحجّة التي كان يتمسّك بها لتبرير مواصلة إشرافه على العلاقات الخارجية على اعتبار أنها إحدى مهامه الأصلية. فبدل السياسة الخارجية العسكرية قبل 2002، حلّت نظريات أحمد داوود أوغلو عن السياسة المتعددة الأبعاد و«الصفر أعداء» و«القوة الناعمة» وتحسين العلاقات مع دول الجوار والتوسط لحل النزاعات. جميعها أوضاع يجيد المدنيون لا العسكر إدارتها.
ـــــ انكشاف خلايا «إرغينيكون» وافتضاح تورّط عدد كبير من أرفع ضباط الجيش في جرائم ارتُكبت وفي محاولات انقلاب لم تبصر النور حتى بعد 2002. فضائح هزّت صورة الجيش عند عامة الشعب وأتاحت المجال لأردوغان ورجاله بتسريع خطواتهم الهادفة إلى حصر دور الجيش في إطاره الطبيعي.
ـــــ اقتناع الطبقة السياسية والطبقة العسكرية التركيّتين بأنه لا حل عسكرياً لحزب «العمال الكردستاني»، وخصوصاً بعد الهزائم الكبيرة للجيش، وبالتالي سحب بساط «تحرير يد الجيش في كل شيء» بحجة حماية وحدة البلاد من الانفصال والإرهاب.
ـــــ التغيّر البنيوي الاجتماعي الذي طرأ على أفراد الجيش، إذ أظهرت الانتخابات الأخيرة أنّه لم يعد كتلة حديدية متجانسة توحّدها «قيم الجمهورية» بالكامل رغم «غسيل الأدمغة» الذي يمارس على العسكريين، بدليل أن قسماً كبيراً من عناصر هذه المؤسسة صوّتوا لحزب «العدالة والتنمية» ولأحزاب أخرى غير تلك التي يفضّلها الجيش تاريخياً، على غرار حزب أتاتورك «الشعب الجمهوري».

دستور جديد أولاً

إذا كان إنجاز حكم حزب «العدالة والتنمية»، من ناحية الحدّ من صلاحيات الجيش في السياسة، يتجسّد في التعديلات الدستورية التي جرى تمريرها بالتقسيط (وخصوصاً في تعديل عمل مجلس الأمن القومي)، فإنّ المحكمة الدستورية، أحد أبرز حصون العسكر، تمكّنت من إعادة عقارب الزمن إلى الوراء بجرّة قلم يوم الخميس الماضي، حين ألغت تعديل تمّوز الماضي الذي سمح بمقاضاة عسكريين أمام محاكم مدنية. لكن هناك رأياً قانونياً يفيد بأنّه لا مفعول رجعياً لهذا الإلغاء، بمعنى أنّ الضباط والأفراد العسكريين الذين يحاكمون بخطط «إرغينيكون» منذ 2007، وبمحاولة اغتيال نائب رئيس الوزراء بولنت أرينش لن يعفوا من المحاكمة المدنية، حسب القاضي المتقاعد رشاد بيتيك والأستاذ في جامعة الفاتح، عثمان قاشقجي. ويرى البعض، من أمثال الكاتب التركي المختص بشؤون الجيش حسن جلال غوزل، أنّ إلغاء التعديل الدستوري المذكور يؤكّد محدودية الإصلاحات الجزئية، والحاجة إلى دستور جديد بالكامل لأنه «حينها فقط سنكون قادرين على التحدث عن محاكمة قادة الانقلابات».

«مطرقة» العسكر كادت تطيح حكم «العدالة والتنمية»




يرتبط ذكر الجيش التركي بمصطلح الانقلاب العسكري. قبل وصول حزب «العدالة والتنمية»، كانت الانقلابات أقرب إلى اليوميات «الطبيعية»، لكن بعد 2002 ظلّت الانقلابات مجرّد مشاريع أُحبطت في اللحظات الأخيرة، وحصل ما كان يصعب تصديقه: قادة الجيش أمام المحاكم

تصدّرت خطط منظّمة «إرغينيكون» ومشاريعها أولويّة اهتمامات الأتراك منذ افتضاح أمرها عام 2007. وكان العالم يذُهَل في كل مرة يُكشف فيها عن مخططات الانقلابات، التي إما أُحبطَت أو لم تنفَّذ، بما أنّ كبار مدبّريها وعقولها كانوا من جنرالات الجيش وكبار ضباطه المتقاعدين أو المستمرين في الخدمة.
وبعد خطط «مكافحة الرجعية» و«القفص» و«ضوء القمر» و«الفتاة الشقراء» و«القفّازات»، نشرت صحيفة «طرف»، يوم الأربعاء الماضي، تفاصيل محاولة انقلاب كان الجيش يعدّ لها عام 2003 تحت اسم «المطرقة» لإطاحة حكم «العدالة والتنمية». واللافت أنّه كل مرة كان الجيش يبرّئ نفسه من التهم، من دون أن يمنع ذلك سوق عدد من ضباطه إلى المحاكم العسكرية أو المدنية، علماً بأنّ الضابط التركي الوحيد الذي صدر حكم بحقه في تاريح تركيا بتهمة الإعداد لانقلاب عسكري كان طلعت أيدمير في 1960.
وعن «المطرقة»، جاء نفي الجيش غريباً. في اليوم الذي تلى نشر «طرف» تفاصيل المخطَّط، صدرت بيانات عن قيادة الجيش لم تنفِ وجود هذا المخطط، بل وصفته بأنه كان عبارة عن «تمارين على سيناريوهات ليست معدّة للتطبيق» نوقشت في ورشة عمل للجيش (سيمنار). أمر يؤكد رواية الصحيفة التركية، التي أوضحت أن «السيمنار» المذكور حضره 250 ضابطاً في الجيش.
لكن يوم أمس، خرج رئيس الأركان إلكر باسبوغ عن صمته، ودان الاتهامات الموجّهة إلى عناصر الجيش، محذّراً من أنّ «صبر الجيش بشأن هذه المسألة محدود»، في لغة تذكّر بمصطلحات العهد الماضي، حين كان كل انقلاب يُسبق بتحذير عادةً ما يكون مفاده بأن الجيش «لن يقف على الحياد إزاء أيّ حركة تهدد قيم العلمانية ووحدة البلاد».
إلا أنّ باسبوغ تابع تصريحه بهدوء قائلاً إن «موقف الجيش واضح: هذه الانقلابات أصبحت شيئاً من الماضي. نؤمن بأنّ أهم مظاهر الديموقراطية هو أنّ القوّة يجب أن تُسنَد إلى من يفوز في الانتخابات».
وعن الرواية المفصّلة التي نشرتها «طرف»، التي باتت متخصصة بكل ما يكون موجهاً إلى العسكر منذ تأسيسها قبل سنوات قليلة، فإنّ قيادة الجيش وضعت كامل تفاصيل ما بعد الانقلاب المقرر في آذار 2003، مع أسماء الوزراء ورئيسهم الذي كان يفترض أن يكون رئيس «اتحاد الغرف وتبادل السلع» رفعت هيسارشيكلي أوغلو. وقالت الصحيفة إنّ بحوزتها ملفاً من 5000 صفحة هي عبارة عن وثائق تفاصيل الخطة التي وضعها الجنرال المتقاعد شتين دوغان وقائد الفرقة العاشرة للجيش الأول، القائد السابق للقوات الجوية، الجنرال إبراهيم فرتينا، والجنرال المتقاعد إرغن سايغون، الذي يخضع للمحاكمة على خلفية تورطه في محاولة انقلابية أخرى.
ووفق خطة «المطرقة»، كان من المفترَض أن تُستبدل حكومة «العدالة التنمية» الأولى بوزارة عسكرية تحت شعار «حكومة الوحدة الوطنية». وكان يجدر أن يكون هيسارشيكلي رئيساً للحكومة والزعيم السابق لحزب «الشعب الجمهوري» حكمت شتين والوزير السابق للصحة يلدريم أكتونا والرئيس السابق للبرلمان نجم الدين كارادومان نواباً له مع 22 وزيراً. كما نصت الخطة على أن تضع قيادة الجيش برنامج الحكومة الانقلابية فور تأليف مجلس الوزراء.
ومن ضمن الوثائق التي تمكّنت «طرف» من الاستحواذ عليها، مقدمة خطة الانقلاب التي برّرت مشروعها بـ «ضرورة مواجهة جهود الأعداء الداخليين والخارجيين، الهادفة إلى تقويض وحدة أراضي الجمهورية التي أرساها أتاتورك». وفي التبريرات، يتصدّر موضوع «توجيه بطاقة حمراء» إلى الحجاب الإسلامي ومحاولات السماح بارتدائه، لكون ذلك يندرج في خانة «استغلال الحساسيات الدينية في البلاد»، وبالتالي فإنّه سيُلجَأ إلى جميع الاحتياطات كي لا يُسمح بـ «تحول الحجاب إلى رمز سياسي من خلال السماح بارتدائه في المؤسسات العامة».
وبعد المقدمة، تقرّر أن يُستهدَف مسجدان في إسطنبول ويُصعّد التوتر مع اليونان بهدف دفع القوات اليونانية إلى إسقاط طائرة تركية فوق بحر إيجه. كما تضمّنت الخطة لائحتين باسم صحافيين أتراك، تضمّ كل منهما أكثر من 160 اسماً. الأولى تتحدث عن صحافيين يجب استمالتهم، والثانية أسماء يجب تنحيتهم.
وعن القضية الكردية، نصّ المشروع الأوّلي لما بعد الانقلاب على أن يجري التعاطي معها «بأساليبنا الخاصة». والأبرز كان مشروع العلاقات الخارجية التركية لمخطّطي الانقلاب، إذ إنّ أوّل ما كانوا سيقومون به هو إنهاء مسار المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، وقطع العلاقات مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، على اعتبار أن هذه المؤسسات «تسبّب أذى لتركيا أكبر من الأذى الذي تسبّبت به معاهدة سيفر» بين الحلفاء والسلطة العثمانية الخاسرة بعد الحرب العالمية الأولى عام 1920.
وفي الاقتصاد، أول ما كان سيحصل، لو نجحت خطة «المطرقة»، كان إعلان الحرب ضد الشركات الأجنبية العاملة في تركيا، «التي تستغلّنا باسم الرأسمالية».