واشنطن ألغت مشروع الدرع الصارخيّة لإرضاء موسكو، غير أنها أغضبت دول أوروبا الشرقيّة، التي عدّت القرار الأميركي تخلّياً عنها. كان لا بد من تعويض، فجاء «الباتريوت»
ربى أبو عمو
تستعدّ صواريخ «باتريوت» الأميركية للتمركز في بلدة موراغ البولندية، التي تبعد مئة كيلومتر عن مقاطعة كاليننغراد الروسية. هذه الصواريخ كانت جزءاً من الدرع الصاروخية الأميركية، التي عملت واشنطن على نشرها في بولندا وتشيكيا بعدما حظيت بموافقة البلدين. ومع وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض ، أعلن رغبته في بداية جديدة في العلاقات مع روسيا، بعد تأزّم بلغ أوجَه على خلفية الحرب الجورجية ـــــ الروسية. سيد البيت الأبيض علّق خطة نشر الدرع الصاروخية في وارسو وبراغ. بادله نظيره الروسي ديمتري مدفيديف بالمثل، معلناً في تشرين الثاني الماضي أن بلاده لن تنشر منظومة للصواريخ الباليستية في كالينينغراد.
هدأت مسألة الصواريخ، وكثرت التصريحات الودية بين واشنطن وموسكو، وبشّر الطرفان بقرب التوصل إلى اتفاق بشأن خفض ترسانة الأسلحة النووية بين البلدين. واصلت إيران وأفغانستان وأوروبا جمع هاتين الدولتين في حوارات ونقاشات مستمرة، قبل أن تعود قضية الصواريخ إلى الواجهة فجأةً، مع وطأة أقل حدّة هذه المرة، حين أعلنت بولندا نشر نحو 100 صاروخ من نوع «باتريوت» الأميركية بحلول نيسان المقبل في بلدة موراغ، بدلاً من ضواحي العاصمة وارسو. اكتمل عنصر المفاجأة هذا بموقف روسي بدا هائداً، ربما للمرّة الأولى حيال هذه القضية. قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن «نشر صواريخ باتريوت قضية أميركية ـــــ بولندية. لكن موسكو ترغب في الحصول على توضيحات»، مضيفاً «لا أملك معلومات كاملة في هذا الشأن، وإذا كان الأمر صحيحاً، فإننا نتساءل عن سبب القيام بعمل يوحي بأن بولندا تعزّز موقعها ضد روسيا».
موقف أربك وسائل الإعلام الروسية والمحللين الروس، قبل أن يسترجعوا براغماتية ودبلوماسية بلادهم في سياستها الخارجية، وكان اللافت بينها موقف صحيفة «كومرسنت»، التي لعبت لغوياً على كلمة «باتريوت»، التي تعني «وطني». عنونت الصحيفة أنه «حين يتعلق الأمر بصواريخ باتريوت، لافروف دائماً باترويت (وطني)». إلّا أن الوطنية هذه المرة اختارت أسلوب الدبلوماسية، لا التصعيد الخطابي الذي اعتادته روسيا.
الدبلوماسية شملت أيضاً، إضافةً إلى هدوء لافروف، إعلان مصدر رفيع المستوى في سلاح البحرية الروسي تزويد أسطول بلاده في بحر البلطيق بأسلحة دقيقة التصويب، رداً على نشر «الباتريوت» في بولندا، قبل أن ينفي الكرملين أن يكون القرار الروسي هذا على صلة بتلك الصواريخ.
قليل من المحللين رأوا أن القرار الأميركي قد يضر بالعلاقات الروسية ـــــ الأميركية. وقال المحلل العسكري، بافيل فلغناور، إن «نصب صواريخ الباتريوت قرب الحدود الروسية قد يعدّ تصرفاً غير ودي، وسيسبّب صدور انتقادات من الكرملين».
في المقابل، بدا رئيس الجامعة الأميركية في موسكو ادوارد لوزانسمي أكثر واقعية، إذ رأى أن القرار الأميركي بمثابة «خطوة رمزية أرادت واشنطن من خلالها أن تقول إنها لم تتخلّ عن حلفائها في أوروبا الشرقية».
من جهته، رأى المحلل العسكري ألكسندر غولدز أن «الرد الروسي بدا هادئاً بصورة غير مسبوقة، حتى إنه كان متواضعاً. قال لافروف إنه لا يفهم معنى هذه الإجراءات، وإن خطوة بولندا نعطي انطباعاً بأنها تستعد لحماية نفسها من روسيا. هذا هو كل شيء. أعتقد أن موسكو لا تريد تصعيد الأمور من هذه المسألة».
صحيفة «فريميا نوفوستيه» وصفت الخطوة الأميركية ـــــ البولندية بأنها «سياسية أكثر منها عسكرية»، موضحة أن «واشنطن معنيّة بالتخفيف من رد الفعل السلبي للقيادة البولندية جراء تراجع الأميركيين عن نشر عناصر الدرع الصاروخية. ولهذا الغرض اقترح الأميركيون على وارسو غطاءً جوياً يتألف من صواريخ باتريوت».
وفي السياق، نقلت الصحيفة عن القائد العام الأسبق لسلاح الطيران الروسي، أناتولي كورنوكوف، قوله إن «الولايات المتحدة لن تزوّد بولندا صواريخ باتريوت معدّلة، كتلك التي يتسلح بها الجيش الأميركي».
هي لعبة التذاكي في المواقف إذاً. واشنطن تُبيّض صفحتها مع حلفائها، وتشعرهم بالاطمئنان، وتراعي موسكو. الأخيرة تفهم الرسالة، وتظهر للعالم سياسة حكيمة. هكذا يسجّل البلدان النقاط، فيحصلان على النجوم من دون حرب.