تهويل وملاحقة للنيّات واستثمار في «الشعور» وإفراط بالإنفاقشهيرة سلوم
يمكن رصد أساليب واشنطن لمكافحة الخطر الإرهابي من خلال مراقبة عمل الهيئات المكلفة هذه المهمة، وفي مقدمتها وزارة الأمن الداخلي، وإجراءاتها الأمنية لمنع النشاطات التي تعدّها إرهابية واستباقها وملاحقتها. رصدٌ يبيّن أن هذه الهيئات تقوم على خلق التهديدات وتضخيمها ومحاسبة النيّات، واستنباط إجراءات أمنية من غير منفعة وبأكلاف عالية بهدف محو القلق العام وتوفير الشعور بالطمأنينة.
ويُلاحَظ في طريقة عمل مكتب التحقيقات الاتحادي «أف بي آي»، والاعتقالات التي ينفذها، كيف يُصار إلى ملاحقة «نيّات» المشتبه فيهم، وذلك في رصد حالات لا تُحصى. حالة المواطن الأردني حسان ماهر الصمادي (19 عاماً) نموذج. اعتقلته السلطات الفدرالية بتهمة الإرهاب والتخطيط لتفجير ناطحة سحاب في دالاس ومحاولة استخدام أسلحة دمار شامل، لينتهي به الأمر إرهابياً.
قصته بدأت في دردشة إلكترونية مع عميل فدرالي متخفٍّ. تحدثا عن الجهاد. وبعد أشهر من المحادثات، أصبح حسان عضواً في خلية وهمية نائمة لتنظيم «القاعدة». وخلصت السلطات الفدرالية إلى أن «الصمادي خطر حقيقي»، رغم تأكيدها أنه «غير مرتبط بأي منظمة إرهابية».

خطّط أردني لتفجير ناطحة سحاب في دردشة إلكترونية مع عميل فدرالي
وفي تفاصيل «الدردشة»، التي نشرها الـ«أف بي آي»، فإن الصمادي غيّر أهدافه مرات عديدة، قبل أن يختار برج «فاونتين بلازا» الذي يضم «بنك ولز فارجو» الشهير. وقال: «بإذن الله سيكون الانفجار محدداً وقوياً وسيهز الاقتصاد الأميركي الضعيف».
ويتهم مسؤولون فدراليون الصمادي بأنه دخل إلى الولايات المتحدة بصورة غير مشروعة وأقام في ولاية تكساس، إلا أن عائلته نفت ذلك، مؤكدة أنه دخل عبر تأشيرة من السفارة الأميركية في عمّان، وأنه متزوج أميركية وحاصل على إقامة «غرين كارد».
وتبرز ملاحقة النيّات في سلسلة من الاعتقالات التي شملت مواطنين من أصول لبنانية أخيراً في ولايات فيلادلفيا وبنسلفانيا ونيويورك بتهمة دعم حزب الله، عبر السعي إلى شراء صواريخ «ستنغر» المضادة للطائرات لمصلحة الحزب، أو العمل على توفير أسلحة وجوازات سفر وأموال مزورة وحواسيب نقالة مسروقة وألعاب إلكترونية.
التهم، التي تتراوح عقوبتها بين السجن لـ15 و30 عاماً، كانت نتيجة مهمة لعميل فدرالي متخفٍّ اطّلع على «نيّات» المتهمين.
إضافة إلى ذلك، تبرز سهولة خداع السلطات الفدرالية، التي تعاني مشكلةَ عدم قدرتها على تحديد التهديدات الحقيقية من المفتعَلة. وتقدّم حالة امرأة تعيش في السويد نموذجاً على ذلك، إذ إنها اشتكت لوالدها من رغبة زوجها في السفر إلى الولايات المتحدة، بينما تريده أن يبقى إلى جانبها لأنها مريضة. فما كان على الوالد إلا أن بعث برسالة إلى «أف بي آي» يتهم فيها صهره بأنه ينتمي إلى «القاعدة». وما إن حطّ الصِّهر في المطار، حتى انقضّ عليه العملاء الفدراليون، واعتقلوه قبل أن يطلقوا سراحه.
وعمل مكتب التحقيقات هو في الواقع تتمة لطريقة عمل وزارة الأمن الداخلي، التي تعكس مواطئ ضعف جمّة في مكافحة الإرهاب، إذ تركّز على نشر الشعور بالأمان أكثر من ملاحقة الخطر الفعلي. ويبيّن الكاتب جيفري روزين، في تقرير نشرته «نيو ريبابليكان» بُعيد تسلم الإدراة الجديدة مهماتها، كيف أن تلك الوزارة تقوم بضمان الأمن عبر نشر الشعور بالطمأنينة بأكلاف عالية. يقول إن الوزارة تواجه تحديات في ملاقاة «التحليلات المنطقية للتكاليف والمنافع»؛ فهي أكثر المشاريع كلفة في التاريخ السياسي (مع إنفاق أكثر من 40 مليار دولار في العام الواحد من أجل أمان أكثر). ويصف الوزارة بأنها «شركة تسعى إلى جعلنا نشعر أكثر بالأمان بدلاً من جعلنا آمنين فعلاً». بمعنى آخر، هي مؤسسة تعتمد

امرأة اشتكت لوالدها من تصرفات زوجها فاتهمه بأنه عضو في «القاعدة»
على «العامل النفسي» وتستثمر في «الشعور» بالأمان.
وتذهب نفقات الأمن في كثير من الأحيان إلى غير منفعة. فقد أُنفق مثلاً 2 مليار دولار لتمويل الأمن المحلي للولايات من خلال تركيب كاميرات مراقبة، فيما أكدت دراسة أصدرها مكتب الأمن الداخلي البريطاني أن تلك الكاميرات المستخدمة ليس لديها أي تأثير على الجريمة في الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة، لكونها «لا تمنع الجريمة من الوقوع، بل تساعد على الردّ والملاحقة بعد وقوع الجريمة».
كذلك هناك نفقات أخرى على برامج لا تعود بمنفعة فعلية غير الإسهام في إعطاء شعور بالأمن، كحراس السماء، التي تكلّف ملايين دولارات، والمسح الإشعاعي لكل الشحنات التي تدخل المرافئ الأميركية، حتى وإن كانت آتية من دول كبريطانيا مثلاً.
إضافة إلى ذلك، فإن تضخيم التهديدات يُسهم في رفع الكلفة، بحيث تتراوح الكلفة العالية لحماية الروح الواحدة ما بين 1 إلى 10 ملايين (بحسب المعيار الحكومي)، فيما تتحدث دراسات عن كلفة تتراوح ما بين 64 إلى 600 مليون لكل روح جرى إنقاذها.
والمنفعة التي تأتي بها مهمة مكافحة الإرهاب تكمن في «وهم الأمان» نفسه، الذي يشعر به المواطنون ويوفّر منافع نفسية واقتصادية ملموسة. مثلاً: إذا شعر الناس بخوف أقل، فأنهم سيسافرون أكثر بالطائرات. لهذا تكثر الإجراءات الأمنية الحمائية غير المبررة لجعلهم يشعرون أكثر بالأمان.
كل ذلك لا يلغي النجاحات التي حققتها الوزارة على صعيد إفشال عشرات الهجمات الإرهابية، لكن بعضها لا يُعَدّ أيضاً ذاك النجاح الباهر للوزارة نفسها، بحسب المراقبين.


وزارة أمن داخلي متصدّعة