استثمار أجنبي مشروع أم استيلاء ونهب لثروات الدول النامية؟ بين تهافت الدول المستثمرة الساعية إلى تلبية احتياجاتها الغذائية وغير الغذائية وإغراءات الدول النامية ذات الموارد الطبيعية الوفيرة والقدرات التقنية المحدودة، تظلل موضوع الاستثمار الزراعي الأجنبي شبهة استنزاف موارد الدول النامية تلبية لأطماع رأسمالية لا تكون إلا على حساب الفقراء وحقوق السكان المحليين
جمانة فرحات
يشكو المزارعون في مالي خطراً داهماً يزحف رويداً رويداً في اتجاههم. ينظرون إلى اراضيهم التي اعتادوا الذهاب إليها يوماً بحسرة، موقنين بأنهم سيفقدونها بعدما وصل خطر الاستثمار الزراعي الأجنبي إليهم.
ويتقاسم هؤلاء المزارعون مشكلتهم مع أقرانهم في عدد من الدول التي شرّعت أبوابها أمام الدول والمؤسسات الأجنبية لاستغلال مواردها الزراعية، بعدما فشلت في الاستفادة منها، لتأتي النتيجة مزيداً من البؤس على فئة اعتادت أن تكون الأكثر تهميشاً في مجتمعاتها.
تهميش لم يعد يطرق أبوابهم فقط من دولهم ومؤسساتها، التي تعجز عن توفير متطلبات الحياة لهم والارتقاء بمستوى معيشتهم. إنه تهميش معولم قذفت به إليهم أنانية أغنياء أدركوا أنهم يستطيعون تطبيق سياساتهم الرأسمالية الجشعة والسيطرة على هذه الأراضي لزرعها بما يحتاجون إليه من أنواع مختلفة من الحبوب، بمجرد دفعهم الأموال من خلال ما بات يعرف بظاهرة الاستثمار الزراعي الأجنبي. استثمار خارج الحدود بدأت تلجأ إليه العديد من الدول، بعدما سبقتها المؤسسات الخاصة بكثرة مع الارتفاع الذي طال أسعار المواد الغذائية خلال السنوات الأخيرة.
وتنقسم عمليات الاستثمار الزراعي الأجنبي إلى نوعين: الأول، يقضي باستئجار الأراضي لمدة محددة لا تقل في معظم الأحيان عن 10 سنوات، لتصل في أحيان أخرى إلى مئة عام، فيما النوع الثاني يقوم على شراء هذه الأراضي.
وتأتي الصين، بمؤسساتها الرسمية والخاصة، إضافة إلى كوريا الجنوبية، في طليعة الدول التي بدأت باستثمار الأراضي الزراعية خارج حدودها قبل نحو عشر سنوات من الآن. فالصين، صاحبة أكبر عدد من السكان في العالم، تتنامى حاجاتها الغذائية يوماً تلو الآخر، وهي لا توفر سبيلاً لتأمين اكتفائها الذاتي على هذا الصعيد.
الصين وكوريا الجنوبية والسعودية وليبيا وقطر تتصدر قائمة الدول المستثمرة
عربياً، تحتل السعودية وليبيا والبحرين والأردن وقطر والإمارات القائمة. فهذه الدول، التي تمتلك ما يكفي من المال لشراء حاجاتها مهما بلغت الأسعار، تخشى أن يأتي يوم لا تجد ما تشتريه في ظل التحوّلات المناخية وآثارها السلبية على القطاع الزراعي. لذلك تفضل أن تتحكم في الإنتاج، وإن خارج أراضيها، على اعتبار أن الكلفة ستكون أقل في المدى البعيد.
فقد شهد العالم في عامَي 2007 و2008 ارتفاعاً غير مسبوق في أسعار المواد الغذائية، ترافق مع إقدام 25 بلداً على الأقل، بينها روسيا والأرجنيتن والهند وفييتنام، على فرض حظر أو قيود على صادراتها من المواد الغذائية، ما أسهم إسهاماً أساسياً في تصاعد وتيرة الاستمثار الزراعي الأجنبي.
في المقابل، تعدّ الدول الأفريقية وجنوب آسيا أكثر الدول جذباً للاستثمار، بما في ذلك السودان وإثيوبيا إضافة إلى كينيا والفيليبين وتنزانيا وباكستان وكمبوديا ولاوس واندون، نظراً إلى امتلاكها أراضي خصبة شاسعة. كذلك فإن هذه الظاهرة تتّسع لتشمل دولاً في أميركا اللاتينية وشرق أوروبا.
وأفادت دراسة للمعهد الدولي لبحوث برامج الغذاء «IFPRI»، بعنوان «نزع ملكية أراضي الدول النامية على أيدي المستثمرين الأجانب»، بأن الحكومات والشركات الأجنبية اقتنت ما بين 15 مليوناً و20 مليون هكتار من أراضي البلدان النامية. ويقدّر المعهد أن القيمة الفعلية لهذه الاستثمارات تتراوح بين 20 إلى 30 مليار دولار.
ووفقاً لأرقام وزارة الزراعة السودانية، فإن مستثمرين من قطاعات خاصة وعامة، من دول عربية وآسيوية، استطاعوا الحصول على عقود طويلة الأمد للاستثمار في ما مجموعه مليوني فدان من الأراضي الصالحة للزراعة، مع العلم بأن العديد منهم يسعون إلى الحصول على حقوق بعيدة الأمد في الأراضي الصالحة للزراعة، ومضاعفة المساحة.
وإن كان البعض يجد مبرراً لهذه الخطوة على اعتبار أن الدول تسعى من وراء هذه الصفقات إلى حماية أمنها الغذائي، إلا أن المشكلة الحقيقية تكمن في سعي البعض إلى اتخاذها وسيلة للتجارة وتحقيق مكاسب اقتصادية. كذلك فإن بعض الشركات تهدف إلى إنتاج محروقات غذائية، فيما يموت سنوياً ملايين الأطفال في الدول النامية بسبب الفقر وسوء التغذية.
وفي السياق، يبرز العقد الذي وقّعته حكومة موزامبيق مع شركة أفريقيا الوسطى للتنقيب والتعدين في عام 2008 لتخصيص 30 ألف هكتار من الأراضي المزروعة بقصب السكر لإنتاج 120 مليون ليتر من الإيثانول سنوياً.
ولذلك، يرى البعض في الاستثمار الزراعي الأجنبي استراتيجية لا يمكن فصلها عن مخططات نهب ثروات القارة الأفريقية، إذ إن أيّ عقد لاستثمار الأراضي يمتد أيضاً إلى المياه تلقائياً بسبب الارتباط العضوي بينهما. وفي هذا الإطار، تحاول الدول المستثمرة الحفاظ على مخزونها من المياه في بلدانها، في الوقت الذي تعمد فيه إلى استنفاد موارد الدول الأخرى.
وتمتد السلبيات، التي تستتبع هذه الظاهرة، لتطال خطر فقدان المزارعين البسطاء لأراضيهم. كذلك فإنها تحمل خطراً متزايداً بفقدانهم لوظائفهم التقليدية من خلال استقدام بعض الدول، كما الصين على سبيل المثال، مزارعيها للعمل في الأراضي التي تستأجرها أو تستملكها. وترجّح بعض التقديرات أنه مع نهاية عام 2009، سيصل عدد المزارعين الصينيين الذي يعملون في أفريقيا إلى مليون شخص، فضلاً عن أن الدول التي تقوم بالاستثمار تعمد إلى استخدام تقنيات متطورة تحدّ من الحاجة إلى اليد العاملة التقليدية.
مع نهاية عام 2009، سيصل عدد المزارعين الصينيين في أفريقيا إلى مليون شخص
كذلك فإن هذه الصفقات قد تؤدي إلى أزمات سياسية، مثلما حصل في مدغشقر، حيث أسهم توصّل الشركة الكورية الجنوبية «دييوو لوجيستكس كوربوريشن» إلى اتفاق مع الحكومة لاستئجار 1,3 مليون هكتار من الأراضي لزراعة الذرة ونخيل الزيت لمدة 99 سنة في جزء من الاضطرابات التي شهدتها البلاد العام الحالي، قبل أن تُلغى الصفقة في ما بعد.
ودفع التبادل غير المتكافئ، الذي ترجح كفته لمصلحة الدول المستثمرة على حساب الدول الفقيرة، المعهد الدولي لبحوث برامج الغذاء إلى التحذير من خطر استحواذ الدول الغنية على الأراضي الزراعية في الدول الفقيرة. ورأى أن الظاهرة، التي أطلق عليها وصف «الاستيلاء»، يمكنها أن تضع معيشة الفقراء في خطر، وخصوصاً عندما تعمد السلطات إلى طردهم من الأراضي لمصلحة المستثمرين الجدد، كما حصل في إثيوبيا عندما طردت الدولة مزارعي قرية تيفيقي في ولاية أوروميا في عام 2005، من دون أي تعويض، لمصلحة شركة هولندية.
أما تقرير منظمة الغذاء العالمية بعنوان «سطو على الأراضي أم فرصة للتنمية»، فدعا إلى أن تؤخذ هذه الظاهرة في الاعتبار في إطار السياق الأوسع لتوسيع العلاقات الاقتصادية بين أفريقيا وبقية العالم. وهي دعوة محقّة لا يمكن فصلها عن سياسات نهب ثروات الدول الفقيرة، ولكن بوسائل جديدة تتكيّف مع المتغيّرات والمتطلّبات.
ولذلك تبرز أهمية الموازنة بين عمليات استثمار الأراضي، التي غالباً ما تشجّعها الدول النامية، وحفظ حق الدولة في الحصول على موارد مالية من دون إهدار حقوق المزارعين. وتأكيداً لأهمية هذا الموضوع، طرحت اليابان، خلال قمة الثماني التي عقدت في شهر تشرين الثاني، أهمية احترام حقوق المزارعين المحليين، وخصوصاً في ما يتعلق بموضوعي التنمية والغذاء.
كذلك اضطرت الأمم المتحدة إلى دراسة هذه الظاهرة، خلال مؤتمر القمة العالمي عن الأمن الغذائي الذي عقد في شهر تشرين الثاني. وتحت عنوان «الاستثمارات الأجنبية المباشرة: مفيدة للجميع أم استيلاء على الأراضي؟»، أكدت الأمم المتحدة أن الاستثمارات الأجنيية المباشرة في زراعة البلدان النامية لها العديد من الإيجابيات، ولذلك فإن الهدف يكمن في كيفية تعظيم تأثيرها «لكي نحصل على أكبر قدر من الفوائد ونقلّل إلى حد أدنى من المخاطر».
وهنا تبرز أهمية تطوير الدول آليات كافية لحماية الحقوق وإدراج المصالح المحلية في الحسبان، كأن تعطي عقود الاستثمارات أولوية للاحتياجات التنموية للسكان المحليين وأن يباع قسم من المحاصيل الزراعية على المستوى المحلي بأسعار خاصة.
ولا بد من تأكيد موضوع الشفافية وتفعيل الرقابة، وبالتالي إشراك السكان المحليين ومؤسسات المجتمع المدني في عمليات التفاوض التي تسبق إبرام أيّ عقود وعدم قصرها على مؤسسات الدولة، وعدم انتظار الخطوط العريضة العالمية لإدارة الأراضي، التي وعد خبراء الأمم المتحدة بإعدادها خلال سنتين.


حق الوصول إلى الأرضورأى الأمين العام للمنظمة، فلافيو فالنتي، إنه «نظراً إلى الحجم الكبير من الاستيلاء على الأراضي التي نشهدها اليوم، ونظراً إلى حقيقة أن الأرض أمر أساسي لتحقيق العديد من حقوق الإنسان مثل الحق في الغذاء والسكن والماء والعمل والثقافة وحقوق الشعوب الأصلية، فلقد حان الوقت لزيادة حماية الوصول إلى الأرض عن طريق الاعتراف بها تماماً كحق من حقوق الإنسان».
وفي السياق، قالت خبيرة السياسات الزارعية في المنظمة، صوفيا مونسالفي، «نطالب الدول بالوفاء بالتزامها واحترام وحماية الحق في الغذاء لمواطنيها ومنع الاستيلاء على الأراضي على نطاق واسع».