على الرغم من وضع الحرب الباردة لأوزارها منذ سنوات، لا تزال نتائجها تثقل كاهل العالم حتى اليوم. فسباق التسلّح خلال خمسين عاماً أنتج ترسانات نووية تفوق قدرة الأرض على تحملها، ومن عمل على تجهيز نفسه بانتظار مواجهة لم تحصل، استفاق ليرى أنه يحمل في جعبته ما يستطيع أن يدمر العالم مرات متعددة، فكانت مفاوضات طرفي النزاع لخفض ترسانتيهما النوويّتين
حبيب إلياس
تعدّ مفاوضات معاهدة الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية «ستارت ـــــ1»، التي وُقّعت بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة في 31 تموز عام 1991(قبل 5 أشهر من انهيار الاتحاد)، الأكثر تعقيداً بين معاهدات الحد من التسلح في التاريخ. هذه المعاهدة، التي بدأت مفاعيلها عام 1994، انتهت في الخامس من الشهر الحالي، لتترك الوضع معلقاً بين شيطان التفاصيل في مفاوضات قد لا تقلّ تعقيداً عن سابقاتها.
وفي وقت كانت فيه الأمور تتجه في الأيام الماضية نحو توقيع الرئيسين الروسي ديميتري مدفيديف والأميركي باراك أوباما معاهدة «ستارت » جديدة في ختام قمة المناخ في كوبنهاغن، خيّم التشاؤم على أجواء المفاوضات، مع إعلان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في مؤتمر صحافي أمس، أنه «من المستبعد أن يحدث هذا في كوبنهاغن، لأنه لا يزال هناك الكثير من العمل الفني البحت لتهيئة الوثيقة للتوقيع»، متّهماً المفاوضين الأميركيّين في جنيف بالتلكّؤ في إصدار موقف. وأشار إلى أنه يتعين على المفاوضين في المرحلة الختامية للمفاوضات العمل على أساس مبدأ توفير أقصى تقليص عميق ممكن للأسلحة الاستراتيجية، والآخر المتعلق بضمان آليات رقابة منسجمة مع المعاهدة الجديدة، لا القديمة.
وبموجب المعاهدة القديمة، التي طُرحت فكرتها أول مرة من جانب الرئيس الأميركي رونالد ريغن عام 1982، وقد سمّاها وقتها «سالت 3» (محادثات خفض الأسلحة الاستراتيجية)، التزم الاتحاد السوفياتي (روسيا الاتحادية بعد انهياره) والولايات المتحدة بأن يقلّصا على مدى 7 سنوات كمية الرؤوس الحربية النووية حتى 6 آلاف قطعة، وحاملاتها (الصواريخ الأرضية والبحرية وقاذفات القنابل الاستراتيجية) حتى 1600 قطعة لكل من الجانبين.
وإضافةً إلى ذلك، فإن الجانبين اتفقا على الامتناع عن صنع وتحديث بعض الوسائل الخاصة بإيصال الشحنات النووية، وعدم زيادة عدد الشحنات المزوّدة بها الصواريخ المتوافرة، وعدم جعل وسائل النقل التقليدية تحمل السلاح النووي. وأُلحقت بالوثيقة بروتوكولات عديدة، واتفاقيات تنص على آلية الرقابة على تنفيذ الاتفاقات.
ومع اقتراب موعد انتهاء صلاحية المعاهدة، بدأ العمل على توفير بديل لها. بديل بانت بوادره الأولى عام 2006، حين طرح الرئيس الروسي حينها، فلاديمير بوتين، مبادرة بالبدء بعملية المفاوضات الخاصة بتوقيع اتفاقية جديدة بديلة. وفي 16 تموز عام 2006، كلف الرئيسان الروسي والأميركي وفدَيهما، على مستوى الخبراء، بمعاينة كيفية تطبيق معاهدة الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية وإعداد مقترحات بتبديلها.
العقدة الأولى في المفاوضات كانت في انتقاد إدارة جورج بوش الابن لفكرة عقد اتفاقية ملزمة قانونياً، معلنة أن الثقة المتبادلة تكفي لتنفيذ الالتزامات، إلّا أن روسيا أصرت على أن تحتوي الاتفاقية الجديدة على آلية للفحص على غرار معاهدة الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية، التي تقتضي نظام الشفافية والمفاهيم والمصطلحات الموحدة بالنسبة إلى عدد كبير من التفاصيل التقنية التي تخص عملية صنع السلاح الاستراتيجي وتجربته ونشره وتحديده وتصفيته.
تملك الولايات المتحدة وروسيا 95 في المئة من المخزون العالمي من الأسلحة النووية
وفي آذار عام 2008، تخلّت الولايات المتحدة عن اعتراضها على عقد وثيقة ملزمة قانونياً. لكن بعض الخلافات في هذه المسألة لا تزال قائمة. فالولايات المتحدة تقترح أن تقوم الاتفاقية المقبلة على مفهوم «الشحنات النووية الاستراتيجية المنتشرة عملياتيّاً»، أي جعل موضوع الاتفاق يقتصر على الصواريخ الأرضية والبحرية وقاذفات القنابل الاستراتيجية الثقيلة التي تزوّد بشحنات نووية، وحظر الرقابة على الحاملات والرؤوس النووية التي جرى نزعها وتبديلها برؤوس تقليدية. وترى روسيا في هذه الرقابة إمكاناً لتفادي الزيادة السرية في قدرة الأسلحة الهجومية الاستراتيجية. وستتاح للقوات الهجومية الاستراتيجية بعد عام 2009 فرصة لأن تمتلك 3000 رأس نووي كانت مخزَّنة بعد توقيع معاهدة الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية. وبحسب رأي الجانب الروسي، فإن ما تسمّى القدرة الممكن استرجاعها قد تتحول إلى قوة نووية استراتيجية، الأمر الذي يمكّن الولايات المتحدة من توجيه ضربة استباقية.
وإضافةً إلى ذلك، فإن روسيا والولايات المتحدة تختلفان في مسألة نشر الأسلحة الهجومية الاستراتيجية. ويرفض الجانب الأميركي التأكيد على الالتزام بعدم نشر الأسلحة الهجومية الاستراتيجية خارج حدود الدولة، الأمر الذي تصر عليه روسيا. ويخص هذا الأمر قبل كل شيء الدرع الصاروخية الأميركية.
ومع اقتراب موعد انتهاء المعاهدة، أكد الرئيسان الروسي والأميركي في 1 نيسان الماضي، خلال قمة جمعتها في لندن، أن معاهدة «ستارت 1» أدت وظيفتها تماماً. وبدأت المفاوضات في الرابع من أيار الماضي في جنيف، بعدما كان البلدان قد وضعا الخطوط العريضة التي على أساسها سيجري التفاوض، لتبقى مناقشة التفاصيل. وعقب بدء المفاوضات، جرت في 6 تموز مباحثات في موسكو بين مدفيديف وأوباما، اللذين أصدرا بعدها بياناً مشتركاً للحد من الأسلحة الاستراتيجية والهجومية، وعقد اتفاقية جديدة ملزمة قانونياً.
وبموجب هذه الوثيقة، فإن الولايات المتحدة وروسيا تعتزمان التقليص بمقدار الضعف لكمية الرؤوس النووية القتالية. وجاء في البيان أن كل واحد من الجانبين سيقلّص أسلحته الاستراتيجية والهجومية لكي يراوح الحد الأعلى للحاملات الاستراتيجية بين 500 و1100 قطعة، والحد الأقصى للرؤوس النووية المرتبطة بها بين 1500 و1675 قطعة بعد مضيّ 7 سنوات من بدء سريان مفعول المعاهدة الجديدة.
عقبتان تعوقان الاتفاق: القيود على الصواريخ الروسية المتحركة وعدد مركبات إطلاق الصواريخ
وستؤكّد المعاهدة أيضاً أن كل واحد من الجانبين سيحدّد بطريقة مستقلة عدد وبنية أسلحته الهجومية والاستراتيجية. وبموجب الاتفاق المشترك، فإن المعاهدة الجديدة ستتضمن بنداً ينص على تأثير الصواريخ البالستية العابرة للقارات والصواريخ البالستية المنصوبة في الغواصات وغير المزوّدة بشحنات نووية على الاستقرار الاستراتيجيّ، كما ستتضمّن المعاهدة بنوداً تنصّ على مرابطة الأسلحة الاستراتيجية الهجومية داخل أراضي كل من الدولتين، وبنداً مفاده أن المعاهدة لن يسري مفعولها على التعاون في مجال الأسلحة الاستراتيجية الهجومية بين كل من الدولتين من جهة، ودول أخرى من جهة ثانية. وستُعقد المعاهدة لمدة عشرسنوات في حال عدم تبديلها بمعاهدة أخرى قبل انقضاء هذه المدة.
وضمن هذا الإطار، تتواصل في مدينة جنيف المفاوضات بين وفدين يمثّلان الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، يشارك فيها عسكريون ودبلوماسيون كبار من كلتا الدولتين.
ورغم التفاؤل الذي يبديه الطرفان، يبدو أنه لا يزال هناك بعض التعقيدات التي تمنع التوصل إلى اتفاق؛ فبحسب تقرير لصحيفة «كوميرسانت» الروسية، نقلاً عن خبراء في المحادثات لم تذكر أسماءهم، لا تزال هناك عقبتان تعوقان التوصل إلى اتفاق، ترتبط إحداهما بالقيود على منظومة الصواريخ الروسية المتحركة «توبول إم»، بينما ترتبط العقبة الأخرى بعدد مركبات إطلاق الصواريخ التي يمكن للجانبين الاحتفاظ بها.
وأصر مسؤولون روس على أن المعاهدة يجب أن تربط ما بين أنظمة الدفاع الصاروخية والأسلحة الاستراتيجية، كما أعربوا عن قلقهم بشأن عدد «الصواريخ» التي يمكن أن تحمل رؤوساً نووية.
ولا ترغب روسيا كذلك في أن تنص المعاهدة الجديدة على قيام الولايات المتحدة بعمليات تفتيش على صواريخها البالستية العابرة للقارات المتنقّلة، والتي تنشر براً، كما كانت عليه الحال في معاهدة «ستارت 1». وتقول إن هذا البند غير منصف نظراً لأن الولايات المتحدة لا تملك مثل هذه الأنظمة.
ولكن على الرغم من أهمية توصل الطرفين إلى معاهدة جديدة، لما له من انعكاس على المستوى الدبلوماسي، وما له من تأثير في معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، سيبقى الطرفان يملكان 95 في المئة من المخزون العالمي من الأسلحة النووية، وخصوصاً أن المعاهدة تشمل الأسلحة المنتشرة من دون التطرق إلى الأسلحة المخزّنة، وسيظلان قادرين على تدمير العالم مرّات متعدّدة.


الترسانتان