يوم السبت في الثالث من تشرين الأول، هاجم سلاح الجو الأميركي مستشفى تديره منظمة «أطباء بلا حدود» في قندوز في أفغانستان، ما أدى إلى تدميره. 12 من الموظفين لقوا حتفهم، إضافة إلى 10 من المرضى، بينهم 3 أطفال، فيما أصيب 37 آخرون بجروح.
منذ ذلك اليوم، بدأت الولايات المتحدة تخرج من جعبتها التفسيرات والاستنتاجات لما جرى. زعمت، في البداية، أن الغارة استهدفت «أفراداً» من حركة «طالبان»، كانوا يهاجمونها في مكان قرب المستشفى. ثمّ صرّح قائد قواتها في أفغانستان الجنرال جون كامبل بأن الأمر لم يكن كذلك، وأن القوات الأفغانية طلبت الدعم الجوي. بعدها، أعلن المسؤولون الأفغان أن «المستشفى كانت تستخدمه حركة طالبان بشكل كامل»، الأمر الذي نفته «أطباء بلا حدود» بشدة. وكان آخر الإبداعات الأميركية في مجال الروايات المتناقضة: الاعتراف بإصدار الولايات المتحدة الأوامر بالضربة، وليس القوات الأفغانية بحسب ما كانت قد ادعت واشنطن سابقاً. مؤشر التباينات وصل إلى أوجه، وهو ما لفت إليه موقع «ذي انترسبت» الذي عمل على توثيق المعلومات المتضاربة، من قبل الجيش الأميركي ووسائل الإعلام التابعة له، ليبيّن أن القصة استمرت في التغيّر، وأن «واشنطن بدلت الرواية أربع مرات على مدى أربعة أيام».
ختام التوضيحات على المستوى الرسمي، كان باعتذار قدمه الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى رئيسة منظمة «أطباء بلا حدود» جوان ليو. غير أن هذه الأخيرة لم تُذعن، وبعدما كانت قد أوضحت أنه جرى إخطار الولايات المتحدة، مسبقاً، بموقع المستشفى المحدّد، وأن المنظمة حاولت الاتصال بالجيش الأميركي لمطالبته بوقف إطلاق النار، أشارت إلى أن كل هذه المحاولات لم تمنع استمرار الهجوم، لأكثر من 30 دقيقة.
كل هذه الأسباب التي ذكرتها إلى جانب التبريرات المتباينة دفعت بالمنظمة إلى وصف الهجوم بـ«جريمة حرب» والمطالبة بتحقيق مستقل، من قبل لجنة تابعة لاتفاقات جنيف. «حتى الحرب يوجد فيها قواعد» قالت ليو. هي اعتبرت أن الهجوم «لم يكن فقط على المستشفى الخاص بنا، ولكن على اتفاقيات جنيف». بحسبها «لا يمكننا الاعتماد على التحقيقات العسكرية الداخلية، من قبل الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والقوات الأفغانية».
وأيضاً منذ وقوع الهجوم حتى اليوم، بدا لافتاً غياب الإعلام الأميركي عن انتقاد ما حصل. صحيفة «لوس أنجلس تايمز» كانت من الأقلية التي تفهّمت رد الفعل الناتج من المنظمة. فأشارت في افتتاحيتها، قبل يومين، إلى تضارب المعلومات بشأن الهجوم. وبناء عليه، اعتبرت أن الأمر مبعث للقلق، وخلصت إلى أن من حقوق «أطباء بلا حدود» السعي للحصول على تحقيق وتقويم مستقلين، وأن «على الحكومة الأميركية التعاون في هذا المجال».
يبقى التجاهل الإعلامي عموماً موضع تحليل بحد ذاته في أسبابه وأبعاده. ويمكن الانطلاق في هذا الإطار من أنه متماهٍ مع الخطاب السياسي السائد، وهو ما عمل على إبرازه الصحافي في موقع «ذي انترسبت» غلين غلينوورد، الذي تناول تصريح السيناتور جون ماكين، الذي قال «أجد أن من السخيف والمهين أن يقول الناس إنه بسبب هذا الحادث الرهيب، ارتكبت جريمة حرب. طالبان تقوم بهذه الأشياء عمداً وبناءً على خطة معينة».
غلينوورد أشار في معرض محاولة شرح أسباب التعاطي الإعلامي الأميركي مع الحادثة، إلى أن «العديد من الأميركيين، وخصوصاً نسبة كبيرة من الصحافيين، لا يحتاجون إلى تحقيق ليعرفوا أن ما حصل ليس أكثر من خطأ فادح ومأسوي. إنهم يعتقدون بأن الأميركيين، وخصوصاً الجيشن، جيّدون إلى درجة أنهم لن يقوموا عمداً بإلحاق الأذى بمستشفى».

واشنطن بدلت
الرواية أربع مرات على مدى أربعة أيام
أضاف الكاتب إن الأميركيين متأكدون من التفوّق في هذا المجال «رغم الإصرار الذي أبدته منظمة أطباء بلا حدود على أن ما حصل جريمة حرب... وبغض النظر عن عدد المرات التي أخطرت خلالها المنظمة، الجيش الأميركي بالإحداثيات المؤكدة عن مكان وجود المستشفى... ورغم أن القصف تواصل على مدى 30 دقيقة بعدما طلبت المنظمة من الجيش الأميركي التوقف».
والأهم من ذلك، أنهم متأكدون من الأمر «رغم المرات التي قامت خلالها الولايات المتحدة بتغيير الرواية عما جرى، في الوقت الذي كانت تظهر فيه الحقائق منافية لمزاعمها... ومن دون الأخذ في الاعتبار عدد المرات التي قامت خلالها الولايات المتحدة بمهاجمة وتدمير أهداف مدنية في ظروف مثيرة للشكوك».
«ذي انترسبت» تكفّل، على هذا الصعيد، باللجوء إلى المخزون التاريخي للكشف عن أحداث أخرى كانت «عرضية» وفق الولايات المتحدة. جون شوارز تحدث، في أحد التقارير، عن الهجمات الأميركية التي استهدفت المنشآت المدنية في الماضي.
* قصف معمل حليب أطفال في العراق عام 1991: في اليوم السابع من عملية «العاصفة في الصحراء» قصف طيران التحالف، الذي شكلته الولايات المتحدة، معملاً لحليب الأطفال في منطقة أبو غريب، بحجة أن المعمل كان يحتوي على مصنع للأسلحة البيولوجية. الكاتب أشار إلى أن كلام صهر صدام حسين، حسين كامل، الذي انشق وهرب إلى الأردن في عام 1995، والذي كانت لديه كل الحوافز المتاحة من أجل التأثير على صدام، انطلاقاً من رغبته في أن تقوم الولايات المتحدة بتعيينه خلفاً لصدام. ولكن كامل أخبر شبكة «سي ان ان» لاحقاً أنه «لا يوجد ما يتعلق بالشق العسكري في المصنع... إنه يصنع فقط حليب الأطفال». بعدها، خلص تحقيق وكالة الاستخبارات الأميركية «سي اي ايه» إلى أنه جرى قصف الموقع «بسبب اعتقاد خاطئ بأنه كان منشأة بيولوجية أساسية».
* استهداف ملجأ العامرية في العراق عام 1993، بواسطة قنابل ذكية، الأمر الذي أدى إلى مقتل 408 مدنيين، على الأقل. حينها، ادعى جنرال أميركي بأن الملجأ كان يحتوي على قيادة عسكرية. ثم في عام 1995، قال حسين كامل لـ«سي ان ان» إنه «لم يكن هناك أي قيادة في المكان»، مضيفاً إنه كان هناك «جهاز إرسال للاستخبارات العراقية، ولكن الحلفاء كانوا يعرفون مدى قدرة هذا الجهاز وأنه لم يكن مهماً».
* قصف مصنع الشفاء للأدوية في السودان عام 1998: بعد استهداف مسلحي تنظيم «القاعدة» سفارتي الولايات المتحدة في كل من كينيا وتنزانيا في عام 1998، أعطى الرئيس الأميركي آنذاك بيل كلينتون، أوامر بضرب مصنع الشفاء للأدوية في السودان، بواسطة صواريخ كروز، وذلك لأنه اعتبر أن «هذا المصنع هو مركز لتصنيع أسلحة كيميائية». لكن الإدارة الأميركية لم تتمكن من تقديم براهين مؤكدة تدل على صلة تنظيم «القاعدة» بالمصنع الذي كان يلبي 90 في المئة من احتياجات السودان في الأدوية. وبحسب «ذي إنترسبت» فقد أدى تدمير المصنع إلى وفاة عشرات الآلاف من المرضى، بينهم مصابون بالملاريا، والسل الذي كان بالإمكان علاجه.
* غارة على قطار مدني في صربيا عام 1999: خلال عمليات قصف يوغوسلافيا السابقة، عام 1999، أطلقت مقاتلة أميركية من طراز «اف - 15» صاروخين على قطار، كان يعبر جسراً بالقرب من بلدة غرديليكا، وأسفرت الغارة عن مقتل 14 مدنياً. وعلى الرغم من كون الصواريخ من هذا النوع موجهة، فإن حلف «شمال الأطلسي» نشر شريط فيديو كان من شأنه إقناع الرأي العام بأن القطار كان يسير بسرعة عالية جداً، الأمر الذي لم يسمح لطاقم الطائرة باتخاذ قرار مناسب. ولكن صحيفة «فرانكفورتر روندشاو» الألمانية أثبتت، لاحقاً، أن سرعة الشريط قد تمّت زيادتها ثلاث مرات.
* قصف مقر الإذاعة والتلفزيون في بلغراد عام 1999: قتل 16 من عاملي الإذاعة والتلفزيون الصربيين، نتيجة قصف طيران حلف «شمال الأطلسي» لمقرهما في بلغراد.
* استهداف السفارة الصينية في بلغراد عام 1999: استهدفت الولايات المتحدة سفارة الصين في بلغراد بالخطأ، الأمر الذي أسفر عن مقتل 3 وجرح أكثر من 20 دبلوماسياً صينياً.
* في مستهل اجتياحها لأفغانستان، عام 2001، وجهت الولايات المتحدة سلسلة من الضربات الجوية على مجمع مبانٍ في العاصمة كابول يضم تمثيلية اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
* قصف مكتب قناة «الجزيرة» في كابول عام 2001: بعد أسابيع على غارتها على مجمع الصليب الأحمر، استهدفت الولايات المتحدة كلاً من المكتب المحلي لقناة «الجزيرة» الفضائية ومكتب شبكة «بي بي سي» الإخبارية البريطانية.
* استهداف مكتب «الجزيرة» في بغداد عام 2003: في المرحلة الابتدائية من اجتياح الولايات المتحدة للعراق، في عام 2003، قصف الطيران الحربي الأميركي بالقنابل مكتب قناة «الجزيرة» في بغداد.
* قصف فندق فلسطين في بغداد عام 2003: في اليوم ذاته، أطلقت دبابة أميركية قذيفة على فندق فلسطين في بغداد، حيث أقام صحافيون أجانب، الأمر الذي أودى بحياة مصور لمكتب وكالة «رويترز» وزميله من قناة «تيليثينكو الإسبانية».