إذا كان رجال حزب «العدالة والتنمية» قد حقّقوا عملية تجميل غيّرت ملامح تركيا على الصعيد الخارجي، فإنّهم يخوضون ما يشبه جراحة استئصال لجزء من معارضة تهدّد، سلمياً وعنفياً، حكمهم لإعادة عقارب التاريخ 7 سنوات إلى الخلف. حقّق رجب طيب أردوغان الكثير داخلياً، ويبقى أمامه أكثر، كردياً وديموقراطياً واقتصادياً، لتصبح الصورة الخارجية لبلاده شبيهة بوجهها الداخلي
أرنست خوري
لا يزال معارضو حزب «العدالة والتنمية» يتعاطون مع حكوماته كـ«غرباء» عن النسيج التركي، سرقوا منهم مجداً أورثهم إياه مصطفى كمال أتاتورك شخصياً. نظروا إليهم، ولا يزالون، كخارجين عن قومية تكره الأديان وتحكم قبضتها عليها. تكره القوميات غير التركية وتصرّ على معاملتها كفئة من الدرجة الثانية. تنظر بدونية إلى معظم جوارها، باستثناء أذربيجان لكون مواطنيها أتراكاً. معارضة بنت دولة على صورتها ومثالها، ولما أزاحها إسلاميون في الانتخابات، جنّ جنونهم، وأقسموا على أن يجعلوا عهدهم جحيماً؛ يلاحقونهم في كل قرار. في السياسات الداخلية كما الخارجية. يحاسبونهم أمام المحكمة الدستورية على ماضيهم وحاضرهم وعلى حجاب نسائهم. ينقضون قوانينهم في كل صغيرة وكبيرة. يلوّحون بورقة الجيش لـ«إعادة تركيا إلى نفسها» في حال مرور قانون السماح بارتداء الحجاب الإسلامي في الجامعات الحكومية. يسلّطون عليهم سلاح إعلامهم الفعّال (والمتطور) في مأكلهم ومشربهم، وحتى في قانون حظر التدخين في الأماكن العامة والمغلَقة، فكيف بالأحرى حين تجرّأ رجب طيب أردوغان وزملاؤه على طرح «خطة انفتاح ديموقراطي» عبر إحقاق الحق لإنهاء «القضية الكردية». مصطلح كان استعماله غير مسموح قبل فترة وجيزة، بشهادة عشرات الصحافيين والكتّاب والمثقفين واليساريين الذين إما زُجّوا في السجون أو قتلوا في أجواء كانت تسمّى غامضة، إلا أنها لم تعد أبداً كذلك بعد تفجير فضائح «إرغينيكون» و«الكنيسة الأرثوذكسية التركية» وجميع العصابات «شبه الحكومية» التي أسسها حلف شمالي الأطلسي لتصفية الشيوعيين على الطريقة المكارثية في الحرب الباردة، ثم وجدت نفسها عاطلة من العمل بعد الانهيار الكبير، فتفرغت للأكراد والأرمن وكل من يطال الجمهورية بكلمة. اسألوا أورهان باموك بما أنه لم يعد بالإمكان استيضاح هرانت دينك.
شاءت الصدف أن يكون مصير أحلام رجال أردوغان في تنصيب دولتهم كدولة عظمى، وقْفاً على صندوق اقتراع في آخر قرية نائية على أراضي الجمهورية التركية. قد يُقال إن هذا هو الوضع في جميع الدول التي قرّرت أن ترهن مصير سياساتها وآليات انتقال السلطة فيها إلى العملية الانتخابية. إلا أنّ الوضع يختلف في تركيا. ففي الدول الكبرى عادة، يكون الدور الإقليمي والعالمي المُراد تأديته، كما الهوية المواطنية، محل إجماع. بينما «تركيا الجديدة»، لا تزال في طور التأسيس. صحيح أن غالبية شعبية لا تزال تؤيد التعريف الجديد الذي حمله الحكام الجدد إلى دولتهم، غير أنها لا تزال غالبية متقلّبة. فحتى نسبة الـ50 في المئة من التأييد (لا يحظى بها حالياً حكام أنقرة) لا تكفي في حالة كتركيا للقول إنّ الأمر حُسم لمصلحة الوجهة النهائية المطلوب تكريسها: دولة قومية تركيّة (لا معادية للقوميات غير التركية)، علمانية (لا ملحدة ولا تسيطر فيها الدولة على الدين)، مدنية (لا عسكرية)، حديثة (كوزموبوليتية لا غربية فحسب)، أوروبية وشرقية في آن، أطلسية وشديدة الصداقة مع روسيا. دولة قانون لكن ليس قانون المحكمة الدستورية الحالية.
قد يترشّح داوود أوغلو في الانتخابات لاستغلال قدراته التفاوضية مع المعارضة
ومن سخرية القدر أنّ رجال «العدالة والتنمية»، بعد 7 سنوات من الحكم، وبالمكانة العالمية التي باتوا يحتلونها، لا يزالون عاجزين حتى عن زيارة مناطق هي بمثابة حصون لمعارضة أقل ما يُقال فيها إنها شرسة، عنيفة، وممأسسة بما أنها حكمت بأيديولوجيتها، لعقود طويلة. معارضة لا تزال تهيمن على مواقع رئيسية في مؤسسات الحكم، الشرعية منها وغير الشرعية، في ما بات يعرف بـ«الدولة العميقة» في الجيش والقضاء والجامعات والنقابات والإعلام والمؤسسات الدينية. تجمع في صفوفها عسكراً ويميناً فاشياً (الحركة القومية التركية)، ويساراً ووسطاً أكثر من علمانيّين (حزب أتاتورك «الشعب الجمهوري»)، إضافة إلى أكراد (المجتمع الديموقراطي) ليسوا سوى متخرّجين من صفوف عسكر عبد الله أوجلان، فقدِّر بأي عدوانية يعملون في السياسة.
معارضة تمتلك أكبر إمبراطورية اقتصادية ومصرفية وإعلامية (مجموعة «دوغان» العالمية) تواجهها ثروة الداعية الإسلامي فتح الله غولن. بورجوازية وطنية وأخرى كومبرادورية ممثلة في نقابات «توسياد» (غير العمالية) والجامعات وعوالم المال والأعمال، لا تزال قادرة على إقفال البلد في وجه أردوغان وزملائه.
معارضة لا تزال تعوق سعي الرئيس السابق لبلدية اسطنبول، لاعتماد دستور جديد بدلاً من ذاك المعمول به منذ 1982، على أنقاض عام 1980 الذي نصّب الجيش «حامياً للجمهورية وللعلمانية وللقومية التركية (turkishness)».
أردوغان وعبد الله غول ذوا الصيت العالمي، هما في الداخل التركي رهينة محكمة دستورية فوق العادة لا يزال قضاتها الـ11 يملكون صلاحيات تخوّلهم إقفال حزب بشحطة قلم، وسجن رئيس الجمهورية بتهمة عابرة، وتجريد نواب من حصانتهم بقرارات غير قابلة للاستئناف.
إذاً، صورة تركيا الخارجية، المزدهرة والساعية إلى مقعد دائم في مجلس الأمن، والمحاربة على جبهة العضوية الأوروبية، والوسيط العالمي الأبرع، والقوة الاقتصادية الصاعدة (من بين أكبر 17 اقتصاداً في العالم)، لا تترجم أبداً في شوارع أنقرة وزواريب اسطنبول وأحياء أرضروم وإزمير وبورصة ولا دياربكر.
حسابات محلية نجا أردوغان وغول ورفاقهما من تداعياتها. نجوا من قوس المحكمة ومن قضبان السجن حتى، لا لأنهم ارتكبوا جريمة مالية، ولا لأنهم خانوا وطنهم، بل ببساطة لأنهم تجرأوا على كسر محرّمات، ولأنهم مسلمون مواظبون على تأدية شعائرهم الدينية والمجاهرة بذلك.
أردوغان نفسه، متخرّج من مدارس «الإمام الخطيب» الإسلامية والسجين السابق، نجا من امتحانات داخلية، كانت بالنسبة إليه أصعب من معاركه الدبلوماسية مع بروكسل وبغداد وطهران وأثينا ويريفان حتى: من حجاب الجامعات وتعديل قانون العقوبات إلى السماح بمحاكمة أفراد السلك العسكري مدنياً، ومحاكمة «إسلاميّة» الحزب الحاكم العام الماضي، وصولاً إلى معركتهم المفتوحة مع جنرالات الجيش في قضية «إرغينيكون».
في الاقتصاد، خفضت سياسات الحكومة معدل التضخم من 75 في المئة أواسط التسعينيات، إلى نحو 8 في المئة في العام الماضي. لكن ذلك لم يعنِ الكثير بالنسبة إلى المعارضة.
الثلاثاء المقبل موعد التصويت على الخطّة الكردية في ظلّ تهديد للمعارضة
عُوقب «العدالة والتنمية» في الانتخابات المحلية العام الماضي بسبب نتائج أزمة مالية عالمية كانت تركيا إحدى أبرز ضحاياها. لم ينالوا أكثر من 39 في المئة من الأصوات (بينما حقّقوا 47 في المئة في انتخابات 2007)، لأنّ أردوغان وشركاءه واصلوا ربط دولتهم بالاقتصاد الليبرالي المعولم، حتى أصبحوا ثاني أكبر مستدين (بعد البرازيل) من صندوق النقد الدولي، مع خصخصة جزء كبير من الحيّز العام، وبالتالي كان من الطبيعي أن تنهار القطاعات الاقتصادية التركية كالدومينو.
وقد حالت صفعة الانتخابات المحلية، التي دفعت به إلى «نفض» حكومته، دون تمكنه من تنفيذ وعده المركزي: دستور جديد يحرّره من ملاحقة معارضيه. استحقاق قد لا يكون قريباً بما أن الموعد الأقرب لفحص شعبية الحزب الحاكم هو انتخابات برلمان 2012، لكون غول باقياً دستورياً حتى 2014.
أمام «العدالة والتنمية» اليوم خياران: إما تعديل الدستور باستفتاء شعبي (خيار يفضّله أردوغان) لينال مشروعية كبيرة، أو القيام بهذه الخطوة تحت قبة البرلمان. الأولى ستكون مغامرة غير مضمونة النتائج بسبب تراجع شعبيته. أما الثانية فشبه مستحيلة حسابياً، بما أن الحزب الحاكم يملك 362 نائباً من أصل 550 عضواً، أي أقل بستة نواب من عتبة غالبية الثلثين المطلوبة لتعديل الدستور.
وفي معركته مع المعارضة، لبس أردوغان وجهاً مختلفاً منذ تسميته رئيساً لحكومة ثانية في عام 2007. فإنجازاته في توسيع حريات الأقليات القومية والدينية غير الإسلامية، وتوسيع حرية الصحافة وحق انتقاد الأجهزة الحكومية والجيش وتوسيع حق التظاهر، قابلها سلوك آخر لأردوغان «الجنرال»؛ فبحسب بعض التقارير، فإنّ 49 صحافياً معارضاً له ولحكومته ولحزبه تعرضوا للتوقيف الاحتياطي من دون تهم، أبرزهم إرغون بويراز القابع في السجن منذ 2007. ثمّ كشّر أردوغان عن أنيابه لكسر عظم «مجموعة دوغان» وإمبراطوريتها الإعلامية قضائياً. أفسح المجال لتأسيس صحف مقربة من حزبه (توداي زمان) ويقود حملة لإقفال «جمهورييت» المؤيدة لليمين القومي الفاشي والمتورطة في مؤامرة «إرغينيكون».
هي مؤامرة يحلو لأردوغان أن يعتبر أن كشفها «غيّر وجه تركيا نحو التخلص من حكم المافيات». حتى إنّ الصحف التي رضي عنها، باتت مصدراً أساسياً للحملات القضائية، وتحوّلت صحيفة «طرف» إلى كابوس المؤسسة العسكرية في خرقها المحرمات المتعلقة بها منذ تفجير فضيحة «إرغينيكون» وخطة إطاحة حكم «العدالة والتنمية» في حزيران 2007.
يعوّل أردوغان على تسريع عجلة الإصلاحات الداخلية مع علمه بشبه الإجماع حول انتهاء زمن الانقلابات العسكرية. ولهذا السبب، قد يترشّح أحمد داوود أوغلو شخصياً في الانتخابات التشريعية المقبلة عن «العدالة والتنمية» الذي لا ينتمي إليه تنظيمياً، ربما لاستغلال قدراته التفاوضية في الداخل كما مع العالم الخارجي.

أردوغان والأكراد وتغيير التاريخ

كل ما فعله أردوغان وصحبه في الداخل في وادٍ، و«إنجازاته» الكردية في واد آخر. ومن بين الأمور القليلة التي تجمع ما بين حكام «العدالة والتنمية» وخصومهم، العداء المطلق لنضال الأكراد لنيل حقوقهم. ولا تقل عداونية زملاء أردوغان إزاء فكرة تركيا فدرالية، عن موقف المعارضة. إلا أن حكام أنقرة فهموا أن لا دولتهم ستعيش باستقرار ضروري لمشروع تركيا الدولة العظمى، ولا المنطقة ستعرف هدوءاً إذا لم يقدم أحد ما على اتخاذ المبادرة. ولعلمهم بتفاصيل هذه القضية، عرفوا أنه لا سبيل لإنهائها بالأساليب العسكرية، ببساطة لأن الأكراد يمثّلون نحو 20 في المئة (14 مليون نسمة) من المواطنين الأتراك. مواطنون يعتبرون أنفسهم امتداداً طبيعياً لأشقّائهم في دول الجوار العربي والفارسي والسوفياتي السابق، ويرون أنهم لا يملكون شيئاً ليخسروه. بكلام آخر هم مستعدون لمحاربة أعدائهم بوسائل لا تخطر على أي منطق.
كذلك أدرك أردوغان وفريقه أنه لا حلّ للقضية الكردية إلا بتعاون الجميع، وأول هؤلاء دول الجوار التي ينتشر فيها الأكراد. ولما كان شمال العراق تاريخياً، بمثابة المعسكر والجبهة والقاعدة الخلفية لحزب «العمال الكردستاني»، صوّبوا أنظارهم أولاً نحو هذا البلد لإقناعه بفوائد العمل المشترك لفصل أكراد العراق عن أشقائهم الأتراك. نجحوا وعملوا وفق منطق الجزرة والعصا؛ وعود بتحسين وضع أكراد تركيا من النواحي الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، في مقابل ملاحقة نواب حزب أكراد تركيا «المجتمع الديموقراطي» الذين خسروا عضوية أحد نوابهم العشرين قبل أيام بحكم قضائي بسجنه لأنه مرتبط بتنظيم «إرهابي» (حزب عبد الله أوجلان). تهديد بحل حزبهم في مقابل إقرار خطة لتنمية مناطقهم في جنوب شرق البلاد بقيمة 12 مليار دولار. فتح أثير تلفزيون وإذاعة (trt 6) تبثّان بالكردية، مع رفض لمفاوضة أوجلان علناً (رغم أن تقارير أثبتت وجود وسطاء بين حكام أنقرة وسجين «ألكتراز تركيا»، أي جزيرة إمرلي). هو سجين لم يعدم منذ 1999 كرمى لعيون الأوروبيين وحقوق الإنسان، ولن يبقى قابعاً في زنزانة انفرادية بما أنه يرجّح نقله إلى سجن على اليابسة التركية ليرى بشراً بعد 10 سنوات من العزلة.
وأخيراً، انفجرت رزمة الحل التركية الحكومية عبر «خطة الانفتاح الديموقراطي» التي أعدّها فريق عمل أردوغان منذ 2002، وستعرَض على تصويت النواب في العاشر من الشهر الجاري. خطة تشير المعطيات إلى أن سقفها سيرتفع مع الوقت بدليل الرضى النسبي لـ«المجتمع الديموقراطي» عنها. وقد يكون أبلغ مشهد سلمي عرفته تركيا والقضية الكردية في تاريخها، حصل الشهر الماضي، حين قرر «آبو» مدّ اليد إلى الجهود التركية. «ضحّى» وأرسل من جبال القتال ومنافي أوروبا «مجموعة سلام» من مقاتلين و«إرهابيين» (بالعيون التركية) إلى السلطات التركية. احتفت الحدود العراقية ـــــ التركية بهم في احتفالات غير مسبوقة أمام أنظار الحكومة. تسلّمهم القضاء التركي، وبأقل من 24 ساعة، كانوا في منازلهم أحراراً بريئين من أي تهمة بموجب قانون عفو «ضمني».
ستكون تركيا يوم الثلاثاء المقبل على موعد جديد ومصيري. موعد مع التاريخ تعهّدت المعارضة، باسم دنيز بايكال ودولت بهشلي، بأن تفسده عبر تلقين الحكومة درساً، كثيرون لا يتمنّون أن يحصل في الشارع بخطّة معدّة في إحدى الثكن العسكرية.


المسيحيّون والعلويّون


من بين المفارقات الكبيرة، أن حكّام «العدالة الإسلامية»، الذين يجاهرون بأنهم «إسلاميون محافظون ديموقراطيون على طريقة التيار المسيحي الديموقراطي الأوروبي»، منحوا حقوقاً لأقليات دينية كانت ممنوعة عليهم منذ 1923. بالنسبة إلى العلويين، وسّعت حكومتا أردوغان حقوقهم في ممارسة شعائرهم في اعتراف ضمني بهم كمذهب إسلامي لا يزال غير ممثل في «إدارة الشؤون الدينية» ومحروماً من المعونات الحكومية.
ومنذ 2002، يعمد أردوغان ورفاقه إلى حضور المناسبات الكبرى للعلويين وخصوصاً في إحياء ذكرى «حاجي بكتاش» وذلك في «بيت الجمع»، وهو تسمية أماكن عبادتهم التي لا تزال رسمياً غير معترف بها.
أما بالنسبة إلى أرثوذكس تركيا، ورغم عديدهم القليل، فإنّ تحسيناً قد طرأ على العلاقات مع بطريركيتهم التي لا تزال اسطنبول تحتضن مركزها العالمي بالتزامن مع تطور العلاقات مع اليونان. وأبرز ما طرأ هو اعتراف أنقرة بمسكونية كنيسة برتلماوس الأول واتجاهها لإعادة فتح «معهد هالكي» الديني المقفل منذ 1971.