معمر عطويلم تكن تلك الليلة البرلينيّة الباردة من خريف عام 1989 سوى بعث جديد لحلم الدولة الموحدة الذي تجسّد قبل أكثر من قرن على يدي «المستشار الحديدي»، أوتو إدوارد بسمارك، بعدما نجح في توحيد المقاطعات الألمانية في عام 1871. بيد أن سقوط جدار برلين كان إيذاناً بمرحلة أوروبية جديدة، تجاوزت فيها «القارة العجوز» مشكلة الانقسام بين شرق وغرب، بين منظومة شيوعية متهالكة وأخرى رأسمالية أعلنت أن نهاية التاريخ بدأ «بانتصار» فلسفتها على «إمبراطورية الشر».
حين عزمت جمهورية ألمانيا الديموقراطية الاشتراكية (DDR) على بناء الجدار، روّجت شعاراً يصف دور هذا السور بالحامي للدولة، من خطر الإمبريالية والفاشية. لكن قبل تاريخ 13 آب 1961، موعد البدء ببناء الجدار، برزت إشارات عديدة عقب سقوط الرايخ الثالث، مهّدت لوضع جيو ـــــ سياسي، من شأنه في نظر الساسة الشرقيين آنذاك تبرير بنائهم للجدار.
في البداية، بعد خسارتها الحرب أمام الحلفاء، تحولت ألمانيا إلى منطقة متعددة النفوذ، حيث تقاسمها أربعة أطراف، كانوا قد انتصروا على النظام النازي في عام 1945: روسيا والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا. هذا التقاسم بين «أبطال» الحرب تقرّر في عام 1945 في مؤتمر «يالطا»، حيث شُرّع احتلال الأراضي الألمانية دولياً، على أن تبقى برلين (رسمياً)، منطقة خالية من العسكر.
لكن مركز برلين الاستراتيجي بين دول أوروبا الشرقية والغرب، حوّلها إلى عاصمة للتجسس بامتياز، فأضحت المدينة العريقة رمزاً للحرب الباردة، ومسرحاً لعملاء الاستخبارات العالميّة.
إلّا أن حصار السوفيات لبرلين في عام 1948، خلق شروط إمكان [تقسيم البلاد إلى دولتين: الأولى، جمهورية ألمانيا الاتحادية، على الأراضي التي تخضع لنفوذ الأميركيين والفرنسيين والبريطانيين (تأسست في 23 أيار 1949، واتخذت مدينة بون عاصمة لها). والثانية، جمهورية ألمانيا الديموقراطية (DDR)، التي تأسست بدورها، في 7 تشرين الأول من العام نفسه، وأُعلنت برلين الشرقية عاصمة لها. أمّا الفاصل الجغرافي بين الدولتين، فكان سياجاً طويلاً من المعدن الشائك، يحميه عناصر من الشرطة وحرس الحدود.
غير أن هذا الوضع كان يسمح لعدد كبير من الألمان القاطنين في الشطر الشرقي بالنزوح أو التسلل إلى ألمانيا الغربية، ولا سيما عبر مدينة برلين، التي كانت الحدود تخترق أحياءها اختراقاً تتداخل فيه المعالم والأمكنة، ما جعل مراقبة المتسللين صعبة. ووصل عدد هؤلاء النازحين بين عامي 1949 و1961 إلى قرابة 3.5 ملايين ألماني. كان يأتي بعضهم من دول أوروبا الشرقية الأخرى. حال دفعت السلطات الشيوعية إلى التفكير بطريقة تحدّ من هذا النزوح الذي قد يهدد الخريطة الديموغرافية للبلاد، فكان جدار برلين الوسيلة الأنجع لمنع هذا التدفق البشري.
لذلك امتد الجدار الإسمنتي بين شطري العاصمة الألمانية، ليبلغ طوله نحو 111 كيلومتراً، (يصل علوّه أحياناً إلى 360 سنتمتراً)، فيما بقي نحو 44 كلومتراً محمياً بسلك شائك. وتطلّب هذا المشروع الذي كلّف مليارات الماركات الألمانية، تجهيزه بعدد من أبراج المراقبة ونقاط العبور والتفتيش، التي كان بعضها للمشاة. ومثّل معبر «تفتيش شارلي» الأميركي المعلم الأساسي لانقسام المدينة، الذي كان مخصصاً لمرور الصحافيين والدبلوماسيين والسياح والشخصيات العسكرية. هذا المعبر لا يزال قائماً حتى اليوم كشاهد على الحدث. لعل كثرة الحوادث التي شهدها الجدار، حيث قتل نحو 239 شخصاً أثناء محاولتهم الفرار من ألمانيا الشرقية نحو الشطر الغربي، فرضت وجود عدد من الجنود والضباط، ناهز عشرة آلاف رجل على الجانبين. وتمكن هؤلاء من إفشال نحو 500 حالة فرار.
لكن الجانب الأهم من هذا المعلم التاريخي، هو تلك اللوحات الفنيّة الرائعة، التي رسمها محترفون وهواة على أجزاء واسعة من الجدار، فيما حفلت بعض الأجزاء الأخرى بشعارات سياسية مختلفة. أمّا المراهقون، فوجدوا في تلك المساحات الملساء متنفساً ليعبّروا عن كبتهم بكتابة الكلمات البذيئة أو الرسوم الإباحيّة.
ولنهاية الجدار قصة أخرى، لا تشبه بداياته، فقد بدأت إرهاصات السقوط، من خلال إشارات عديدة، أهمها ظهور معارضة قوية ومنظّمة في كنف النظام الشيوعي. معارضة تحوّلت للمرة الأولى منذ تأسيس الـ«دي دي آر»، إلى حركة ناشطة في الشارع، بعد اتهام

منعطف مصيري في المشهد السياسي الألماني الشرقي، تحوّلت معه الهتافات من مطالبة بالرحيل إلى إعلان البقاء وتغيير النظام

حكومة الحزب الاشتراكي، بتزوير نتائج الانتخابات، في أيار 1989. وانطلقت التظاهرات المطالبة برفع القيود عن حرية التعبير، والإعلام، في مدينة لايبزيغ وبوتسدام وبرلين ودريسدن وغيرها. كذلك نظّمت تظاهرات أخرى طالب المشاركون فيها بالحق في الرحيل عن الشطر الشرقي. هذه الانتفاضة أسست بعد 25 أيلول من العام نفسه، لاحتجاجات دوريّة عُرفت بتظاهرات يوم الاثنين ضمت إحداها عشرات الآلاف. منعطف مصيري في المشهد السياسي الألماني الشرقي، تحوّلت معه هتافات المحتجين من مطالبة بالرحيل إلى إعلان البقاء في أرضهم مع إصرارهم على تغيير النظام.
غير أن الانعطافة الأبرز، كانت مع استقالة الأمين العام للحزب الشيوعي، إيريش هونيكر، من منصبه الحزبي وبوصفه رئيساً للدولة الشرقية. تم ذلك بضغط من أعضاء الحزب الذين سعوا وقتها إلى نزع فتائل أي تفجير محتمل.
وجاء إعلان عضو المكتب السياسي للحزب الحاكم، غونتر شابوسكي، عن قانون يسمح لكل مواطن في ألمانيا الشرقية بالسفر إلى الخارج، بمثابة الخرق الأول للجدار. إذ سارعت وسائل إعلام الغرب إلى القول إن جمهورية ألمانيا الشرقية فتحت حدودها. وكان أن تدفق الملايين من السكان إلى المعابر. وعلى الضفة الأخرى الغربية أيضاً، احتشد المواطنون بكثافة. حشود كانت من الضخامة، بأن دفعت حراس الحدود الشرقيين إلى ترك ختم الجوازات. وفُتحت المعابر الحدودية كلها، قبل منتصف ليلة 9 تشرين الأول 1989. ليلة صاخبة تداخل فيها العامل السياسي بالاجتماعي بالعاطفي، فشُوهد البرلينيون يرقصون في الشوارع، على طول حدود الجدار، وتعانق الأصدقاء والأقارب الذين فصلت بينهم لعبة الأمم لسنوات. وسقط الجدار بالمعاول البسيطة، متزامناً مع بدء انهيار المنظومة الاشتراكية.