قبل عشرين عاماً، كان انتقال سكان شرق ألمانيا إلى غربها بحاجة إلى سمة خروج مستحيلة المنال، وقد تصل كلفتها إلى حدود الموت. أما اليوم، فإن انتقال الفقير إلى منطقة الغني لا يكون إلا بمساعدة سحب اليانصيب واللوتو!
برلين ـ غسان أبو حمد
تحتفل جمهورية ألمانيا الاتحادية اليوم بذكرى مرور 60 عاماً على وضع دستورها الاتحادي وقيامها دولةً مستقلة، وتحتفل في التاريخ نفسه بذكرى مرور 20 عاماً على سقوط جدار برلين. ويحار المواطنون الألمان في تحديد الأسبقية للفرح بالمناسبتين، ما دفع بالمسؤولين إلى دمجهما تحت تسمية واحدة.. عيد «يوم المصير».
وللاحتفال بسقوط جدار برلين، الأولوية والأهمية، لأن الجيل الألماني الحالي يتراوح اليوم بين الغرام والانتقام: جيل مغرم بحال سقوط جدار الإسمنت الذي كان يطوّقه حاجباً عنه العالم الخارجي وحقّه في حريّة التنقل والسفر، وبالتالي سقوط «جدار الاستخبارات» (الشتازي) الذي كان يحجب عنه حرية الكلمة وحقّ التعبير.
وهناك جيل آخر، منتقم، يصفّي حساباته السياسية والعقائدية اليوم، عبر تحميله جميع البشاعات التي يرزح تحتها ويعانيها، إلى «أشقائه الشرقيين»، الوافدين من خلف الجدار، فتراه يحمّلهم، بعد مرور 20 عاماً، مسؤولية تردّي الأوضاع الاقتصادية ومنافسته على فرص العمل؟
هل فعلاً سقط الجدار عمودياً، بين الألمان الذين كانوا هنا وأشقائهم الذين كانوا هناك وانتصب مكانه جدار أفقي بين الألمان الذين هم فوق وأشقائهم الذين هم تحت، ما يدفع بوسائل الإعلام إلى وصف ذكرى احتفالات «يوم المصير»، بأنها احتفالات «دولة واحدة» بـ«شعبين»؟!

نقاط الضعف والقوة

في الجانب المضيء، لا شك في أن الولايات الألمانية الشرقية، وخاصة الأكثر تردياً وتخلفاً (ساكسونيا وبرلين وبراندنبورغ)، قد استفادت من سقوط الجدار، وبالتالي قيام الوحدة الألمانية. لقد حظيت هذه الولايات الفقيرة، جراء انهيار الجدار، بفرصة استقبال المصانع الألمانية الضخمة، وتحديداً مصانع السيارات، «فولكسفاكن» في مدينة «كيمنيتز»، و«سيمنس» في مدينة «دريسدن» ومتجر «كويلله» في مدينة «لايبزغ»، بالإضافة إلى استثمارات ضخمة من حوالى ثلاثة آلاف شركة.
جدار برلين قد سقط «عمودياً» قبل عشرين عاماً، فاسحاً بسقوطه حرية السفر والتعبير. أما اليوم فقد انتصب هذا الجدار «أفقياً»
هذا الدخول المفاجئ للرساميل الضخمة مكّن ولاية ساكسونيا من تحقيق نهضة ذاتية، ومكّن العديد من المؤسسات والمصانع الألمانية من النهوض ومواجهة تحديات العولمة والأزمة المالية إلى حدّ كبير. وعلى سبيل المثال، فإن مصنع الدراجات الهوائية الألماني الشرقي في مدينة «نويكيرش» كان يضمّ حوالى مئة عامل قبل الوحدة، فأصبح اليوم منافساً للإنتاج الغربي (ينتج مئتي ألف دراجة سنوياً) ويضمّ ثلاثمئة عامل.
أما في الجانب المظلم، فيمكن الإشارة اليوم، بعد عشرين عاماً، إلى ارتفاع معدل البطالة عن العمل (قطاع عمال المناجم في مدينة براندنبورغ: خسر 75 ألف عامل وظائفهم من أصل ثمانين ألفاً). كذلك أعلنت مصانع الصلب والحديد إفلاسها، بالإضافة إلى إفلاس مصانع أخرى لم تتمكن من مواجهة التكنولوجيا الحديثة وتحديات الأزمة المالية العالمية.
وتفيد «مؤسسة الاقتصاد الألماني» (IW-Instituts) في تقريرها الأخير الذي أشارت إليه صحيفة «دي فيلت» (الخميس 5/11/2009) بأنّ «الولايات الألمانية الشرقية بحاجة إلى عشر سنوات كي تصبح مساوية لأفقر ولاية في ألمانيا الغربية». هذه النتيجة تضاف إليها تقارير تتعلق بنسبة العاطلين من العمل في ألمانيا «الشرقية» سابقاً، المقدرة بنسبة واحد إلى أربعة، وما يضاف إليها من تقارير تتعلق بالتدهور الاجتماعي والأمني (جريمة «الحجاب» والإسلاموفوبيا وصعود حركات «النازيين الجدد» وتناميها في أفقر ولاية ألمانية شرقية (ولاية ساكسونيا).
ويخلص مدير «مؤسسة الاقتصاد الألماني» ميشايل هوتهير إلى التأكيد في مؤتمر صحافي عقده في برلين أنه في عام 2020 سيكون بإمكان ألمانيا الاتحادية التخلّي عن بعض العقود وقوانين المساعدة للمواطنين «الشرقيين» التي أقرّتها يوم سقوط جدار برلين، ومنها «قانون التضامن الداخلي» ووثيقة المساعدة المادية التي بموجبها مُنح كل مواطن «شرقي» يصل إلى غرب ألمانيا مبلغ 100 مارك مساعدة!

الأوضاع الاقتصادية

هذا يؤكد ببساطة ووضوح أن جدار برلين قد سقط «عمودياً» قبل عشرين عاماً، فاسحاً بسقوطه المدوّي عالمياً، حرية السفر والتعبير. أما اليوم، بعد عشرين عاماً، فقد انتصب هذا الجدار «أفقياً» بين طبقة رجال الأعمال والمؤسسات الاقتصادية الكبرى، وطبقة المواطنين الباحثين عن عمل، بمعدل واحد إلى أربعة. وفي هذا المجال، بدأت دائرة الإعلام في وزارة العمل الاتحادية تعرض إحصاءاتها الرقمية من شهر إلى آخر، مبشرة تارة بانخفاض تدريجي للعاطلين من العمل، وطوراً بإلقاء تهمة البطالة على الأزمة المالية العالمية والظروف الاقتصادية الطارئة، بينما تذهب بعض وسائل الإعلام إلى ما هو أكثر صراحة عبر تحميل «الشرقيين» مسؤولية المنافسة على الأماكن الشاغرة.
ويكشف رئيس دائرة الإعلام في وزارة العمل فرانك ـــــ يورغن فايزيه أن المعدل الرقمي السنوي لعدد العاطلين من العمل هو أربعة ملايين. وهذا الرقم ليس ثابتاً، وقد يرتفع في العام المقبل 2010، بحسب المدير يورغن فايزيه. والمأساة تكمن هنا، في أن الغالبية العظمى من عدد العاطلين من العمل تتناول الطاقات الشابة، وهؤلاء يبدون استعداداً للقيام بأي عمل في أي مكان شاغر ومؤقت. وقد سجلت دائرة العمل في برلين وحدها عدد طلبات العمل المؤقتة بحوالى 160 ألف طلب في شهر تموز الماضي.
والجدير ذكره هنا، أن هذا الرقم المأساوي لا يشمل عدد الذين يتقاضون تعويضات الإعاشة من مؤسسات الضمان الاجتماعي أو الذين يقومون بوظائف مرحلية مؤقتة توفرها لهم دائرة العمل بانتظار مكان شاغر يتناسب مع وظائفهم الأساسية أو أقله يشبه مستوى اختصاصهم وطبيعته.
وبسبب الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، ذكرت وكالات الأنباء، بينها موقع «فوكوس أونلاين» المالي، أن حالة المدن والولايات الألمانية تمر اليوم على الصعيد المالي في حالة مأساوية، وأن المستقبل يبشر بالأسوأ. وتفيد تقارير الخبراء الماليين ـــــ ودائماً بحسب موقع «فوكوس أونلاين» المالي ـــــ بأن الأزمة المالية ـــــ الاقتصادية العالمية قد انعكست بدورها سلباً في ألمانيا، وبقوة هذا العام، على كل قطاعات الإنتاج تقريباً.
وتذهب توقعات خبراء المال والاقتصاد إلى أنه على الرغم من مناعة ألمانيا الاقتصادية وقوتها، مقارنة ببقية دول الاتحاد الأوروبي، فهي ستشهد في السنوات الأربع المقبلة أكبر تراجع في دخلها القومي منذ تاريخ الوحدة الألمانية قبل عشرين عاماً.
وتقدّر صحيفة «برلينر تسايتونغ» في عددها (الأربعاء 3/11/2009) نسبة التراجع في الدخل القومي بقيمة مئتي مليار يورو أقل مما كانت تشير إليه تقديرات المراقبين وخبراء المال في أيار الماضي.
وتكشف تقارير وزارة المال الألمانية عن أن حال الكساد والجمود في أسواق المدن والولايات الألمانية سجّلت هذا العام تراجعاً في الدخل القومي قيمته 2,9 مليار يورو. كذلك تشير التقديرات إلى أن نسبة هذا التراجع ستنساب مع وتيرة الكساد والجمود في الأسواق لتصل إلى نسبة1,1 مليار يورو في العام المقبل (2010).
وتتهكم وكالات الأنباء المحلية في برلين بهذا الواقع الجديد، بعناوين عريضة لا تخلو من الإثارة، ومنها «دولة واحدة بشعبين»، أو كالقول إنه «قبل عشرين عاماً، كان انتقال «الشرقيين» إلى غرب البلاد، بحاجة إلى سمة خروج «فيزا» صعبة، لا بل مستحيلة المنال، وقد تصل كلفتها إلى حدود الموت في حال الفرار عبر الجدار. أما اليوم، بعد عشرين عاماً، فإن انتقال الفقير إلى منطقة الغني، لا يكون إلاّ بمساعدة سحب اليانصيب واللوتو».


أساليب الانتقام

في الحديث عن جدار برلين، لا يمكن على الإطلاق التغاضي عن دور الاستخبارات الألمانية الشرقية والجانب السلبي الذي أدته عبر نشاطها القمعي. هذا الأمر فسح المجال واسعاً أمام الراغبين في الانتقام العقائدي من خلال اتهام كل معارض أو منتقد سياسي لسلوك النظام بالخيانة. والأمثلة كثيرة. المستشارة أنجيلا ميركل زارت في شهر أيار الماضي معتقل الاستخبارات الألمانية (شتازي) في منطقة «هوهنشنهاوزن»، ووضعت إكليلاً من الزهر على ضريح «ضحايا النظام الشيوعي».
وتتجلّى حالة الانتقام العقائدي من خلال تسجيل ممارسة رجال الاستخبارات الـ«شتازي» الظالمة والمستبدة داخل هذا المعتقل، لكونها ممارسات شيوعية، لا لكونها سيرة تاريخية لانهيار النظام الألماني الشرقي.
وفي السياق الانتقامي أيضاً، تنظّم بعض المدارس في المدن الألمانية، منذ تاريخ سقوط الجدار، رحلات مدرسية دورية للتلاميذ والطلاب إلى هذا المعتقل التذكاري حيث يتضمن الشرح للتلاميذ أهمية الحريات العامة ومساوئ العقائد الاستبدادية (الشيوعية) والظالمة لحقوق الإنسان. وعلى الرغم من احتجاج الحزب الشيوعي الألماني، الحامل تسمية «حزب اليسار» ورئيس بلدية «ميكلينبورغ ـــــ فوربومن» حيث هو المعتقل، على تحريف الواقع التاريخي لهذا المعتقل البوليسي وتحويله من واقع سجن إلى مادة نزاع عقائدي وحزبي، إلا أن التعامل مع هذا المعتقل استمر على تسميته «المعتقل الشيوعي».