عبرت أوروبا مسافة طويلة في طريق بناء الثقة مع ألمانيا، التي خاضت وفرنسا ثلاث حروب كبرى خلال 70 عاماً. ومع ذلك، فإن عبء التاريخ لا يزال يثقل مسيرة الاتحاد، عدا عن التخوف الكبير من مطلب برلين القاضي بأن يعكس التصويت داخله “القوة السكانية للدول الأعضاء”
باريس ــ بسّام الطيارة
في كل مرّة تمر فيها ذكرى “سقوط حائط برلين” وتوحيد ألمانيا، تعود معها النقاشات بشأن “موقف فرنسا” من هذا الحدث، وتحديداً دور الرئيس الأسبق فرانسوا ميتران “المتردّد إن لم نقل المتخوّف” من قبول عودة ألمانيا القوية. هذا العام، يقود ألمانيا وفرنسا زعيمان لم يعرفا الحرب ولا أهوالها. كما أنهما لا يعطيان “البعد التاريخي حقّه” في علاقات بلديهما، أكان ذلك بسبب سيرتيهما الذاتيّتين ومسيرتيهما السياسيتين، أو بسبب تقارب أعمارهما. فالمستشارة أنجيلا ميركل “فيزيائية من ألمانيا الشرقية” دخلت عالم السياسة بعد انهيار الحائط، بينما الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ترعرع في ظلال جاك شيراك، الذي حمل لواء الديغولية التاريخية التي رأت أنها “هزمت ألمانيا مرتين: الأولى في الحرب، والثانية عندما أعادت إحياء العلاقة مع نصفها الثاني الغربي فقط”. ثم إن ساركوزي، عند سقوط الجدار، كان لا يزال “متدرّجاً” على عتبات هذا السلّم السياسي، ولا يعتبر نفسه “مسؤولاً” عمّا قام به ميتران وحكومة الاشتراكيين آنذاك. كل هذا يجعل من “التعامل الإعلامي والتاريخي” مع الحدث، أقل وطأة على السياسة الأوروبية، وعلى مسيرة الاتحاد الأوروبي، وهو ما قاد إلى التشديد على “دور ميتران” في جعل قبول فرنسا وحدة ألمانيا “قبولاً ممزوجاً بالخوف”.
تتحدث الصحافة الفرنسية ووكالات الإعلام بكثرة، عن أن “ألمانيا باتت اليوم محاطة بالأصدقاء”، وأنّ “الارتياب منها بدأ يتلاشى شيئاً فشيئاً”، بسبب انتمائها إلى الاتحاد الأوروبيّ وإلى الحلف الأطلسي. وكأن “الخوف لا يزال موجوداً بقوة” من هذا العملاق الجرماني، وأن هؤلاء الأصدقاء الذين يحيطون بألمانيا الجديدة ما هم إلّا “ضمانات للأصدقاء” بأنها لن تعود قوة عظمى كما كانت في المنتصف الأول من القرن الماضي. إنّ سبب تسليط الأضواء على ميتران يعود إلى تاريخ ساطع: ففرنسا وألمانيا كانتا على مر التاريخ عدوتين عرفتا حروباً دموية طاحنة منذ الإمبراطور الكبير شارلمان، الذي كان أوّل من “وحّد البلدين بالقوة” قبل أن يتقاسم أولاده الإمبرطورية. وحتى لو نجح “الفرانك” بتوحيد فرنسا، فقد أبقى ملوكها على نفوذهم في شرق الرين، بسبب حقهم في التصويت لانتخاب “رئيس” من بين ملوك “الإمبرطورية المقدسة”. إمبراطورية تتألف اليوم من ألمانيا والمجر والنمسا التي كانت مقسّمة، وهو ما قاد إلى حروب شبه مستمرة.
ومع الزمن، استطاعت بروسيا أن تفرض نفوذها على معظم الأقاليم والممالك، لتبرز كمحرك للوحدة الألمانية، التي لم تشمل مملكة “بافاريا الكاثوليكية” التي كانت تتلقّى دعماً مزدوجاً من الفاتيكان، ومن فرنسا في إطار سياسة “فرّق تسد”. وقد أنهكت الحروب النابوليونية، البلدين، ولم تسلم بروسيا من سطوة جيوش الثورة الفرنسية إلّا بعد تحالفها مع “كل أوروبا”، وفي مقدمتها روسيا والنمسا وبريطانيا. وما إن توحّدت ألمانيا، حتى برزت كقوة قارية موازية لفرنسا.
ومنذ ذلك الحدث التاريخي، خاضت فرنسا وألمانيا 3 حروب تركت أثاراً عميقة على العلاقات الثنائية: ففي ١٨٧٠، نشبت أول حرب “ألمانية ـــــ فرنسية” حديثة، هزمت فيها ألمانيا فرنسا ـــــ نابليون الثالث، بمساعدة القيصر الروسي ألكسندر الثالث، و“انتزعت منها مقاطعتَي الألزاس واللورين” الغنيّتين. وفي الحرب العالمية الأولى التي ربحتها فرنسا إلى جانب الولايات المتحدة وبريطانيا، استُرجعت المقاطعتَان، وفُرضت شروط قاسية جداً على ألمانيا المهزومة، وخصوصاً في المجال الاقتصادي. عقوبات يقول كثر إنها أسهمت في وصول النازية إلى الحكم، وهو ما قاد إلى الحرب العالمية الثانية. وقد فرض هذا المسار التاريخي النزاعي بين البلدين نفسه على حكّام برلين وباريس؛ فالجنرال ديغول أمسك بمبادرة دعوة المستشار كونراد إديناور إلى “صلح تاريخي بين ألمانيا وفرنسا” عام ١٩٥٨. وبنتيجة نظرة الرجلين التاريخيّين “وُلدت المجموعة الأوروبية للفحم والفولاذ” التي تحوّلت مع الوقت إلى الاتحاد الأوروبي.
لا تزال الشكوك في القوة والنوايا الألمانية تشغل بال الساسة في بولندا وتشيكيا
ولكن هذا لم يمنع من بعض “الحيطة الاستراتيجية”؛ فانفتاح ديغول على روسيا عام ١٩٦٤ هدف إلى إبقاء ضغوط من الشرق على “شريكه الأوروبي”. وكل الرؤساء الذين خلفوا ديغول في الإليزيه بنوا سياستهم الأوروبية على محور “علاقة استراتيجية مع ألمانيا”، مع ثابت لا يتغير: “منع ألمانيا الفدرالية (الغربية) من أن تعود لتصبح عملاقاً يهدّد مصالح فرنسا”.
وقد تشرّب ميتران هذا الإرث التاريخي المليء بالخوف من ألمانيا، وهو ما دفعه إلى التردّد والارتباك عند انهيار جدار برلين. وقد تحدّث ميتران غداة انهيار الحائط عن “حدث سعيد يمثّل علامة تطور في الحريات في أوروبا”، وكرّر بعد ذلك مراراً أنّ “الوحدة الألمانية مشروعة”، إلّا أنه لم يتردّد من القيام بزيارة لرئيس ألمانيا الشرقية مانفرد غيرلاخ في نهاية ١٩٨٩ بعد سقوط الحائط، كأنه يعطي شرعية لألمانيا الشرقية كدولة مستقلة معترف بها.
وكشف مقرّبون من ميتران في تلك الحقبة، أنّه كان “يعيش حالة الخوف الفرنسي من ألمانيا كبرى على حدوده الشرقية”، حتى إن المدير العام للإليزيه آنداك هوبرت فيدرين قال إن “الاتحاد الأوروبي الذي يمكن أن يحل النزاعات، لم يصل بعد إلى مرحلة
اللاعودة”. ونقل البعض عن ميتران، بعد إعلان الوحدة الألمانية، أنه صارح رئيس الوزراء الإيطالي جوليو أندريوتي، في تلك الحقبة، بالقول إن “(المستشار الألماني) هلموت كول يتّبع سياسة الأمر الواقع”، واستطرد بأن جورج بوش (الأب) “لا يفعل شيئاً لردعه”، قبل أن يضيف وسط ذهول السياسي الإيطالي “وحده تدخل عسكري سوفياتي يمكنه أن يجمّد العملية”. إلّا أن ميتران استسلم في تلك الجلسة للأمر الواقع، وطمأن محدّثه إلى أن “هذا التدخل لن يحصل”.
ومن التبريرات التي تفسّر مواقف ميتران المترددة إزاء ألمانيا موحّدة، أنه قبل انهيار حائط برلين بعام، اجتمع الرئيس الفرنسي بالزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشيف، الذي “رجا” ميتران بأن “يحاول تأخير الوحدة الألمانية لتدارك انقلاب” يطيح القيادة السوفياتية المنفتحة على الغرب، ما يمكن أن “يقود إلى حرب” عالمية. وبحسب المصادر، كان جواب ميتران واضحاً: “الحرب لا تخيفني”. وقد يقود هذا التحليل إلى الجزم بأن “وحدة ألمانيا هي التي كانت تخيف حكام فرنسا” آنذاك لا الحرب.
والخوف التاريخي من ألمانيا موجود في اللاوعي الفرنسي، وهو ما ولّد سياسة “التحالف مع شرق ألمانيا”، وخصوصاً مع بولندا. ويذكر التاريخ أنّ اجتياح الجيش الألماني للأراضي البولونية في الأول من أيلول عام ١٩٣٩، هو ما دفع باريس إلى إعلان الحرب. وكان “هاجس مصير بولندا” حاضراً بقوة لدى المسؤولين الفرنسيين حين انهار الحائط. وذكّر ميتران، رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر بمقولة هتلر في كتابه “كفاحي” وما حرفيتها: “لا يوجد فراغ في الغرب، لكنه موجود في الشرق”. كلام يشير إلى أن باريس كانت تتخوّف من أن تلتفت ألمانيا إلى الشرق في محاولة لاستعادة أراضيها التي “انتُزعت منها”، وهو ما بات يُعرف بخط “أودر نايز”، إذ استولت روسيا على أراضٍ شاسعة من بولندا، و“عوّضت” على هذه الأخيرة بأراضٍ من شرق ألمانيا، ومنطقة سيليزيا الغنية على وجه الخصوص.
ولا تزال جميع التعليقات تلفت إلى أنّ “تخوّف” ميتران كان يندرج “ضمن سياق السياسة الفرنسية التقليدية”، ويبدو كثيرون واثقين بأنه “أيّاً كان الرئيس الذي يقطن الإليزيه إبّان تلك الحقبة التاريخية، كان قد تصرّف بالشكل نفسه”.
ثمّ خرجت باريس من “حالة التردّد” بوضع شروط على المستشار هلموت كول، وصفها البعض بـ“التاريخية”؛ ففي القمة الأوروبية الأولى التي تلت “الانهيار”، كانت الأجواء ملبّدة بالتشاؤم، حتى إنه ساد خوف من انفراط عقد مشروع أوروبا الموحدة بسبب “الشكوك المتبادلة بين باريس وبرلين”، رافقه تردّد بريطاني وعدم اتخاذ لندن موقف صريح. حينها، جاءت المبادرة من ميتران، الذي وضع على الطاولة عرض “المساعدة على إتمام الوحدة بشرط قبول ألمانيا الاستمرار في مسيرة بناء أوروبا، وخصوصاً العملة الموحدة”. وجاءت موافقة كول على التخلّي عن المارك الألماني بمثابة بداية نهاية “الخوف المتبادل”.
حالياً، لا تزال الشكوك في القوة والنوايا الألمانية تشغل بال الساسة في بولندا وتشيكيا، بما أن براغ لا تزال تعيش أجواء نزاع بشأن “أراضٍ انتُزعت من الجالية الألمانية كتعويضات حرب بعد طردها من البلاد”. وتتخوف السلطات هناك من أن تطالب برلين بتعويضات استناداً إلى القوانين الأوروبية. حقيقة تفسر “تردّد تشيكيا” في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وأخيراً، طالب الرئيس التشيكي فاتسلاف كلاوس بضمانات تفيد أن لا تقوّض “معاهدة لشبونة”، مراسيم عام ١٩٤٥، التي قضت بنزع الجنسية عن ذوي الأصول الألمانية والمجرية، الذين صودرت ملكياتهم، كشرط لتوقيع المعاهدة.
وأظهر استطلاع للرأي أن ٦٥ في المئة من الشعب التشيكي يدعمون كلاوس في هذه القضية، كذلك أظهرت استطلاعات للرأي أن ٥٧ في المئة من البولنديين لا يعتقدون أن العلاقة جيدة مع ألمانيا حالياً. ولكن من الملاحظ أن الأجيال الصاعدة الأوروبية لا تشارك في هذه المخاوف.
اليوم، حتى داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، هناك تخوف كبير من المطلب الألماني، القاضي بأن يعكس التصويت داخل المنظمات الأوروبية، “القوة السكانية للدول الأعضاء”، وهو ما تعارضه فرنسا وعدد من “الدول الصغيرة”، لأنه قد يؤدي إلى “هيمنة ألمانية على مقدّرات أوروبا”. وقد قاومت فرنسا، بدعم من هذه الدول “الصغيرة”، هذه “القدرة التصويتية القوية”، إلّا أنّها عادت ووافقت في النهاية عليها بناءً على إصرار بولندا (التي ترى أنها تعوّض بعدد سكانها، نفوذاً سياسياً لا تمتلكه)، شرط ألّا يبدأ العمل بهذا النظام الاقتراعي الجديد قبل ٢٠١٤.