اختصر جدار برلين ببنائه وسقوطه حقبة مهمّة من التاريخ العالمي، تعكس الانقسام بين أيديولوجيّتين متناحرتين. ومع سقوطه، بما يحمل من رمزية تفيد بانهيار المنظومة الاشتراكية، وخطوات عملية تمثّلت في توحيد ألمانيا، دخل العالم مرحلة جديدة من التحديات
جمانة فرحات
حمل انهيار جدار برلين في 9 تشرين الثاني من عام 1989، بعد 28 عاماً من تشييده، دلالات سياسية تتخطّى ألمانيا، لتعكس التحولات في النظام الدولي، كان للشرق الأوسط والعالم العربي نصيبهما منها.
لا شك في أن الولايات المتحدة تصدرت قائمة الرابحين من سقوط الجدار، ووظّفت تفوّقها العسكري في ظل المتغيرات الدولية الجديدة بما يحقق مصالحها السياسية والاقتصادية. واستغل العمّ سام صورته كقوة عملاقة مؤهّلة لقيادة العالم، وكونه الجهة التي تمتلك أوسع انتشار عسكري على وجه المعمورة، وامتلاكه أيضاً أكبر قوة اقتصادية، في محاولة للاستفادة من اللحظة التاريخية تلك، عبر تكريس هيمنته العالمية، بما يضمن إطالة عمر الإمبراطورية الأميركية.
كذلك وجدت أوروبا نفسها بعد انتهاء الحرب الباردة أكثر تحرراً. واستفادت من تحقّق الوحدة الألمانية للعمل على إنجاز وحدتها. حراك أوروبي كانت واشنطن تتخوّف منه، على ما يبدو، على قاعدة أن أوروبا موحّدة ستؤدي إلى عزل الولايات المتحدة خلف المحيط. كذلك الأمر بالنسبة إلى بروز العمالقة الآسيويين (وخاصةً الصين) اقتصادياً، والخطر الذي مثّلوه على الهيمنة الأميركية في هذا المجال.
في مواجهة هذه الأخطار الجيوسياسية والاقتصادية، وجّهت الولايات المتحدة أنظارها نحو منابع النفط، الخليجية منها على وجه الخصوص، وسارعت إلى السيطرة عليها عبر وجود عسكري مباشر، بعدما كانت تتّكل في هذا الأمر على أنظمة حليفة تستمد استمراريتها من الدعم الأميركي، وشرطي مستعد للتدخل عند الحاجة (إسرائيل).
كان استراتيجيّو أميركا يدركون أن النظام الدولي، الذي كان قائماً قبيل انتهاء الحرب الباردة، ليس سوى عالم متعدد الأقطاب على شكل ثنائية قطبية. وكانت الولايات المتحدة تعلم مدى القوة الكامنة في كل من أوروبا واليابان والصين والهند، والتي كانت تحتجب خلف الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، بحكم ضرورات الحرب الباردة. وهي رأت، على ما يبدو، أن هذه القوى تعتمد في كينونتها على النفط المستورد من الخارج، وأن السيطرة على منابع هذه السلعة الاستراتيجية تعطي العم سام القدرة على التحكم في حراكها.
وفي هذا السياق، عرفت الإدارة الأميركية كيف تستغل النزعة الصدامية للرئيس العراقي السابق صدام حسين، و“خداعه” لغزو الكويت ما سمح لها بأن تتخذ موطئ قدم عسكرياً في الخليج.
ومع الانتشار العسكري الأميركي في المنطقة العربية، باتت الصراعات المسلحة مضرة بالمصالح الاستراتيجية الأميركية، على قاعدة أنها تسمح لأطراف خارجيين بمدّ نفوذهم عبر دعم هذا الطرف أو ذاك، فكانت نهاية الحرب اللبنانية، وانطلاق مسار برشلونة لتسوية عربية ـــــ إسرائيلية.
كذلك فإن من النتائج السياسية لمرحلة ما بعد جدار برلين، الانتقال من مفهوم الأحلاف العسكرية والتنافس في ما بينها، إلى سيطرة الحلف الواحد، ليس سوى حلف شماليّ الأطلسي، الذي وسّع إطار عمله، وضم أعضاءً جدداً إلى صفوفه، في مقدمتها دول شرق أوروبا. توسّع رأت فيه موسكو خطراً يقترب منها.
كذلك كان للحلف بقيادة الولايات المتحدة دور أساسيّ في إعادة الاعتبار إلى مفهوم «التدخل الإنساني» من خلال الحرب العراقية، وضرب البوسنة والهرسك من دون العودة إلى الأمم المتحدة. نهج متفلّت من الضوابط القانونية استمر وتوسّع بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، التي شبهها البعض بسقوط جدار برلين. وهنا، عمدت الولايات المتحدة إلى تضخيم خطر التشدّد الإسلامي عليها، لتطلق حربها على “الإرهاب”.
تضخيم وضعه البعض في إطار المقاربات الفكرية، التي سادت في أميركا منذ سقوط جدار برلين، وظهور نظريات نهاية التاريخ، وصراع الحضارات، والفوضى الخلّاقة.
فقد كتب فرانسيس فوكوياما مقالاً بعنوان «نهاية التاريخ» في عام 1989، رأى فيه أن الديموقراطية الليبرالية تمثل نهاية التاريخ لأنها قد تمثّل نقطة النهاية في التطور الإيديولوجي للإنسانية، والصورة النهائية لنظام الحكم البشري. ما دفع البعض إلى حد وصف نظريته بأنها «حائط برلين جديد يُفصل فيه ليس بين أيديولوجيتين متناقضتين، بل بين نوعين من البشر، الجديرين بالحياة، وأولئك المسموح لهم بالموت».
أما النظرية الثانية، فتولّى تسويقها المفكّر صاموئيل هانتنغتون، صاحب عبارة «صراع الحضارات»، الذي اختصر البعد الرئيسي والأكثر خطورة في السياسة الكونية الناشئة، بالصدام بين جماعات من حضارات مختلفة، من بينها الإسلام، تاركاً احتمالات نشوء صراعات جديدة مفتوحةً على مصاريعها.
بدوره، رأى الباحث الأميركي، مايكل ماكفل، أن التصرفات الأميركية الأحادية الجانب لا يمكن وضعها إلّا في إطار ما يطلق عليه نظرية “الفوضى الخلّاقة”، أو “البنّاءة” التي روّج لها صقور الإدارات الأميركية، المعروفون باسم المحافظين الجدد، بهدف تسويق مشاريع الولايات المتحدة في العالم العربي، وخصوصاً ما عُرف بمشروع “الشرق الأوسط الكبير”.
مخططات مُنيت بمجموعة من الإخفاقات في أكثر من محطة، وخاصةً في أفغانستان والعراق ولبنان، وأدّت إلى تبدّل لون البيت الأبيض مع وصول باراك أوباما إلى السلطة بشعاراته «التغييرية»، وتبنّيه لمبدأ «القوة الناعمة».
أما على الصعيد الاقتصادي، فأدّت التحولات التي شهدتها أوروبا إلى إفساح المجال منذ نهاية الثمانينات أمام انطلاقة أوسع، وسيطرة شبه مطلقة لمفاهيم اقتصاد السوق والعولمة، التي تحوّلت إلى عولمة نيوليبرالية، ظلت تتصاعد هيمنتها إلى أن بدأت تلوح في الأفق منذ عام 2007 أزمة ماليّة تفجّرت في العام التالي، لتعيد بعضاً من الاعتبار للمرة الأولى منذ سنوات طوال إلى النظريات الاقتصادية الاشتراكية.