«الانفتاح الديموقراطي» ثقافيّاً بينما المطلوب نيّة سياسيّة جذريّةدمشق ـــ أرنست خوري
يفاجأ المراقب بمقدار السخرية التي يلحظها في حديث عدد من الأتراك عن الإصلاحات الداخلية التي أقدم عليها رجب طيب أردوغان ووزراؤه، وخصوصاً في التعاطي مع الأكراد. تقول لهم إنّه شرعن بث تلفزيون وإذاعة تركيين حكوميين باللغة الكردية، فيجيبونك بأنّ TRT 6 قديمة و«لم يخترعها». تردّ بأنّه أقرّ خطة لتنمية مناطق الأكراد بقيمة 12 مليار دولار، فيسألونك إن كنت سمعت خبراً يشير إلى بدء تطبيق الخطة التي يتحدث عنها أردوغان منذ سنوات. أخيراً تُحرَج، فتسألهم عما إذا كانوا لا يرون أنّ هناك فارقاً أحدثه الرجل في التعاطي مع الأكراد، وخصوصاً عبر خطة «الانفتاح الديموقراطي»، فيأتيك الخبر اليقين من أتراك غير داعمين لحزب العمال الكردستاني: الشيء المهم الوحيد والجديد الذي أتى به «العدالة والتنمية» هو أنه بات يعترف بأنّ الأكراد موجودون، وهو أمر ليس بتفصيل بما أن تركيا اتبعت لعقود قاعدة أن «الأكراد غير موجودين»، في نسخة مشابهة للرواية الصهيونية عن أن «الفلسطينيين غير موجودين».
وهنا يتشعّب النقاش مع بقاء شيء وحيد أكيد: لم يعد الأكراد يكتفون بالحقوق الثقافية، فيريدون صرف كلام أردوغان عن «أننا شعب تركي واحد متعدّد الاثنيات» في السياسة. وبحسب كثيرين، هنا يكمن عقم «الانفتاح الديموقراطي». فهي خطة «ثقافية»، لا تنص على حل فدرالي، ولا تلحظ قانون عفو شامل، ولا تشير إلى حكم ذاتي للأكراد، ولا تلفت إلى توسيع حيّز اللامركزية للمحافظات الكردية في جنوب شرق الأناضول، هذا من دون الحديث عن كونفدرالية كردية تركية ـــــ سورية ـــــ إيرانية ـــــ عراقية على طريقة «نظرية» عبد الله أوجلان.
كل ما تتحدّث عنه الخطة التي يتوقّع إقرارها قريباً هو: إلغاء القيود المفروضة على استخدام اللغة الكردية في المدارس والإعلام والحملات الانتخابية، وإعادة الأسماء الأصلية للقرى الكردية، وتأليف لجنة حكومية لمحاربة التمييز العنصري ضد الأكراد. وأخيراً، تأليف لجنة مستقلة للنظر بالشكاوى الكردية المرفوعة ضدّ الجيش.
عنصرية جديدة لم تكن موجودة يوماً بهذا القدر بين الأتراك والأكراد، والإسلاميين والعلمانيين
وحين تحاول استنطاق تركيّة متحمّسة لأوجلان وحزبه عن رأيها بالفارق بين سلوك «العدالة والتنمية» والأحزاب الحاكمة السابقة، تصدمك بالتأكيد أنّ جميع الأحزاب التركية متشابهة في التعاطي مع الأكراد، لأن «جميعهم يخافون من العسكر». وقبل أن تطلب منها دليلاً على كلامها، تحيلك إلى الأساتذة الأتراك في الجامعات الحكومية، والمشاركين في مؤتمر المعهد الدنماركي في دمشق، الذين اضطروا إلى عدم حضور «عشاء عمل» اليوم الأول للمؤتمر، لأنّ سفارة بلادهم لدى سوريا كانت تقيم احتفالاً في ذكرى وفاة أتاتورك (10 تشرين الثاني).
وبين الصورة التي يكوّنها مراقب عربي لم يسبق له أن زار تركيا، وبين الواقع الحالي، فرق شاسع. فلا بد أنّ الجميع وجد شبه إجماع تركي على أنّ عنصرية جديدة تكتسح الشارع، لم تكن موجودة في السابق، وعنوانها انقسامان عموديان، كانا «طبيعيين» وأصبحا عنصرية: بين الأتراك والأكراد، وبين الإسلاميين والعلمانيين.
انقسام لطالما أداره الجيش، فما إن يصل إلى ذروته، حتى يتدخل؛ انقلاب العسكر على القوميين المتطرفين، ومن ثم انقلابه على الإسلاميين (أربكان) مثالاً.
أما اليوم، فقد تغير الوضع بالنسبة إلى دور الجيش، وهو ما يبرر تخوف كُثر بأن يترجم الانقسام الحالي بعنف غير مضبوط، وفي الشارع. أما سبب هذه العنصرية المتجدّدة فما هو سوى أنّ هناك فئة تشعر بأنها خسرت معاركها: العلمانيون والجيش. أما بالنسبة إلى القضية الكردية، فالقوميون الأتراك يشعرون بأنهم خسروا أيضاً: العودة المهلّلة لـ«مجموعة السلام»، وخطة «الانفتاح الديموقراطي».
الجديد الوحيد هو أن الأكراد باتوا موجودين بعد سيادة نظرية «الأكراد غير موجودين»
ويسارع عدد من الأكاديميين الأتراك إلى التوضيح بأن الانفجار الذي يتحدثون عنه، قد لا يأتي على شكل حرب أهلية بالضرورة، بل قد يحصل بالتقسيط وعلى مراحل، من خلال ارتفاع وتيرة العنف في الشارع والجامعات والملاعب والقرى والمدن المختلطة.
مثال مرعب آخر يعرفه معظم الأتراك ولم يشهدوا مثيلاً له: «المقاطعة التجارية» ضد الأكراد، وبشكل علني عبر رسائل قصيرة تصل إلى هواتف المواطنين، تدعوهم إلى عدم التعامل مع البضائع التي تنتجها أو تبيعها مؤسسات ملك لأكراد.
وأحد مظاهر الانقسام العمودي في المجتمع التركي هو الحركة النسوية المقسّمة إلى 3 معسكرات تكاد تتبادل العداء: الحركة العلمانية، الإسلامية، والكردية. ورغم محاولات توحيد نساء هذه التيارات الثلاثة الكبيرة، فقد باءت جميعها بالفشل.
أساتذة جامعيون وصحافيون أتراك معجبون بأردوغان، يبررون بطء المسيرة الكردية بعجز الحزب الحاكم عن إقرار دستور جديد. فرئيس الحكومة يريد برلماناً جديداً يكون بمثابة «برلمان تأسيسي» لـ«تركيا جديدة»، يضع دستوراً جديداً لا في التفاصيل، بل في الجوهر. لذلك لا يريد أن يكون هذا البرلمان ضعيفاً أو مولوداً قيصرياً، بل قوياً منتخباً بإرادة شعبية وفي ظروف طبيعية، لا في انتخابات مبكرة.
أردوغان في سباق مع الزمن. يريد أن ينقل بلاده إلى دستور غير إثني يساوي ما بين جميع من يعيش في تركيا ويحمل جنسيتها. يكمن الخوف في أنّ انفجار التوتّر الداخلي، وخصوصاً على صعيد الملف الكردي، قد يسبقه.


يرى الأستاذ الجامعي التركي، سولي أوسيل، أن علاقة أنقرة مع أكراد العراق عبرت من «السخافة السياسية» إلى «السلوك الذكي»، من خلال الاعتراف بالإقليم بعد رفض استخدام مصطلح حكومة شمال العراق، والسماح باستعمال فقط «الحكومة العراقية في الشمال» لعقود. ويشير زميله كمال كيريشسي إلى أن «أول روّاد هذا الانفتاح كان الرئيس تورغوت أوزال»، منذ أن زوّد جلال الطالباني ومسعود البرزاني بعد 1991، بجوازات سفر تركية لتسهيل مهمتهما في بناء إقليمهما.