أنقرة تتمسّك بورقة استراتيجيّة في مفاوضاتها الأوروبيةدمشق ــ أرنست خوري
يبقى اللغز القبرصي غامضاً. هو لا يزال «وصمة عار» تلاحق الدبلوماسية التركية ومهندسها أحمد داوود أوغلو، بما أنّ عبقريته لم تحل هذه المعضلة التي تشكّل، رسمياً، العائق الأكبر أمام قبول عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي.
إلا أنّ كل هذا التحليل يبقى ناقصاً: قبرص «ليست المشكلة الحقيقية التي تعوق تطور مفاوضات العضوية، بل هي الحجّة لإخفاء السبب الرئيسي الذي يؤخّر مسيرتنا الأوروبية: العنصرية ضد الأتراك والمسلمين عموماً (في ظل إسلاموفوبيا موجهة ضد 23 مليون مسلم يحملون جنسية 27 دولة أعضاء في الاتحاد اليوم)، يقول صحافي تركي، وسط موافقة عدد من زملائه المشاركين في مؤتمر المعهد الدنماركي في دمشق، ومعهم وزير الخارجية الدنماركي السابق موغنس ليكيتوف.
ويعرب عدد من الأتراك والأوروبيين الضليعين بالشأن التركي، عن ثقتهم بأنه حتى لو وافق رجب طيب أردوغان غداً على إزالة «الخط الأخضر» الذي يفصل بين شقي الجزيرة (التركي الشمالي واليوناني الجنوبي)، ولو أزيلت حواجز العبور الخمسة التي تفصل «القبرصَين»، فلن يطرأ تطور كبير على مسار المفاوضات مع بروكسل، طالما بقي الرأي العام الأوروبي رافضاً لدخول أكثر من 70 مليون «غريب» إلى قارته، وطالما بقيت وتيرة الإصلاحات الداخلية التركية بطيئة.
من هذا المنطلق، يرى حكام «العدالة والتنمية» أنّ لديهم ورقة قويّة اسمها قبرص، لن يفرّطوا بها مجاناً، وخصوصاً أن هناك «شعوراً عميقاً لدى جزء كبير من الأتراك، بأنّ الأوروبيين خذلوهم». ورقة قوية على مختلف المستويات: فالشق الشمالي من الجزيرة نقطة استراتيجية، يعيش فيها بين 90 ألفاً و117 ألف قبرصي تركي إلى جانب 93 ألف تركي (عدد كبير من المواطنين الأتراك يملكون شققاً وأراضي في الجزيرة على اعتبارها مقصداً للنقاهة والسياحة والإقامة المؤقتة)، انتقلوا من الأناضول لمحاولة تغيير النسب السكانية المختلّة لمصلحة القبارصة اليونانيين، يحرسهم نحو 35 ألف جندي تركي مع 100 ضابط تركي رفيع المستوى.
وهنا يدخل الحديث في مجال آخر؛ البعض يرى أن أردوغان «تخلّص» من عدد كبير من الضباط «الكبار» المتشددين للغاية في جيش بلاده عبر إرسالهم إلى قبرص التركية.
إذاً، لـ«المراوغة» الحكومية التركية شقّ داخلي: عدم الرغبة بإغضاب الجيش من جهة (لكون قبرص التركية بمثابة موضوع أمن قومي داخلي)، وتفضيل «عدم عودة عدد كبير من الضباط إلى تركيا»، طالما أن قبول أنقرة بحلّ المسألة على قاعدة كونفدرالية على الطريقة السويسرية، تمثّلها حكومة فدرالية (طبقاً للنسخة الخامسة من خطة كوفي أنان)، لن يقدّم ولن يؤخّر بقدر ما يُحكى عنه في تحسين شروط المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي.
في الشق الرسمي للنقاش حول قبرص التركية، تسمع روايات غريبة ينقلها إليك أتراك عن ضباط ووزراء أتراك. أحد الصحافيين ممن التقى الرئيس القبرصي التركي، محمد علي طلعت، أخيراً، يفاجئك بأنّ القبارصة الأتراك وعدداً كبيراً من المسؤولين الحكوميين، يعتقدون فعلاً أنّه إذا غادر الجيش التركي قواعده في قبرص، فسينقضّ اليونانيون على جيرانهم الأتراك في اليوم نفسه. هناك فعلاً من يصدّق أنّ مجزرة مماثلة قد تحصل في دولة أوروبية في عام 2009.
ولا تزال قضيّة قبرص تثير فضول عدد من الأوروبيين المتحمّسين لأن يكون الاتحاد الأوروبي، أو «مصنع العجائب» كما سمّاه ميشال روكار، متنوّعاً ثقافياً ودينياً من خلال ضم تركيا إليه، واختصار طريق المفاوضات.
وفي السياق، طرح عميد المشاركين في مؤتمر المعهد الدنماركي، الأستاذ في جامعة لندن والخبير التركي الشهير ويليام هايل، سؤالاً لم يجد جواباً عنه: لماذا قُبلت عضوية قبرص (نظرياً، جزيرة قبرص كلّها عضو في الاتحاد) عام 2004، فيما 20 في المئة من مواطنيها (الأتراك) لم يُسألوا عن رأيهم؟ لا بل إنّ البعض الآخر يعزز الرأي القائل بأن قضية قبرص ليست السبب الفعلي في تأخّر المفاوضات الأوروبية، عبر التذكير بأنّ 65 في المئة من القبارصة الأتراك وافقوا على خطة أنان، بينما رفضها 75 في المئة من اليونانيين عام 2004.
وعن قصص العنصرية التي تواجه الأتراك في القارة العجوز، تسمع أمثلة عديدة جداً. فوزيرة الخارجية النمساوية السابقة أورسولا بلاسنيك مثلاً، تعترف بأنها شخصياً، (بما أنّ موقف حزبها سلبي جداً إزاء انضمام تركيا)، «تعاني» مع ناخبيها الذين «يريدون منّا إيقاف مسار التفاوض مع أنقرة فوراً». حال مماثلة تعيشها الدنمارك. وهنا لا بد من أن سبب هذا الرفض عنصري بحت، لا علاقة له بأي اعتبار اجتماعي ـــــ اقتصادي. فمجتمعات معظم الدول الأوروبية «الصغيرة»، هرمة وتعاني نقصاً مزمناً في اليد العاملة وفي الولادات (نسبة الزيادة السكانية في الدنمارك لا تتعدى 0,33 في المئة). ورغم الحاجة الماسة للمواطنين ولليد العاملة، لا تزال جميع الدول «الصغيرة» ترفض رفضاً قاطعاً دخول تركيا إلى ناديها.
فتِّشوا عن سبب آخر غير قضية قبرص لتبرير رفض ضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. ولمن حضر أعمال مؤتمر دمشق، فقد توفّر له مثال تحدّث عنه صاحبه: موغنس ليكيتوف، وزير الخارجية الدنماركي السابق، وزير المال لمدة 12 عاماً، أدرى بشعابه: أطيحت حكومته (رغم إنجازاتها الاقتصادية) لأنها «كانت ناعمة في سياساتها مع المهاجرين والهجرة». فتّش عن «عنصرية الرجل الأبيض»، على حدّ تعبير أحد الضيوف الأوروبيين اليساريين على العاصمة السوريّة.


... وللأتراك أيضاً جينات «إمبرياليّة»