الجيش الأميركي لا يريدك أن تشاهد هذا». عبارة بدأت بها شبكة «سي أن أن» الأميركية سلسلة حلقات احتوت، للمرة الأولى منذ احتلال العراق، على مشاهد من التحقيقات مع جنود أميركيين اعترفوا بقتل 4 مواطنين عراقيين في بغداد، وأبقوا الأمر سراً على مدى 9 أشهر. جريمة «القناة» تضاف إلى الأرشيف الأسود للاحتلال، وأظهرت التحقيقات فيها كيف ترجم الجنود الأميركيون نظرية رئيسهم جورج بوش بشأن «الحروب الاستباقيّة»
صباح أيوب
كان يوماً آذارياً بامتياز في بغداد. نحن في عام 2007، أي بعد 4 سنوات من إعلان الرئيس الأميركي السابق جورج بوش أنّ «المهمة العسكرية استكملت». تقرّر فرقة «ألفا كومباني 118» تنفيذ دورية في ضواحي بغداد. تتعرّض للقصف، فيوقف عناصرها أربعة مواطنين كانوا موجودين في المكان. ولكن بدل أن يقتادوهم إلى «نظارة» التوقيف في القاعدة العسكرية، بحسب ما ينصّ عليه القانون العسكري، توجّهوا بهم إلى ضفاف مجرى النهر وأعدموهم بطلقات في الرأس، وتركوا جثثهم تغرق في المياه.
13 جندياً كانوا هناك، 3 منهم ارتكبوا الجريمة (بينهم قائد الفرقة)، والآخرون شاهدوها بدم بارد. وقبل العودة إلى قاعدتهم العسكرية، اتفقوا على إبقاء ما جرى طي الكتمان، وتعهّدوا بألا يخرقوا «رابط الأخوة»، والحفاظ على السرّ لو مهما حصل.
أدرك الجنود أنّ ما قاموا به يُعدّ خرقاً للقانون العسكري ولقانون التعامل مع الموقوفين. علموا أنهم سيحاكمون، فنجحوا بإخفاء الأمر على مدى 9 أشهر، وعُوملوا كأبطال، حتى إن بوش قلّدهم أوسمة عسكرية رفيعة.
لكن في كانون الثاني 2008، خرج أحد الجنود الـ 13 عن صمته، فباح بكل ما حدث في ذلك اليوم. وعلى الفور، بدأت المحكمة العسكرية تحقيقاتها. اعترف الضباط، وحُكم على المتورطين بالسجن المؤبّد، قبل أن تخفض العقوبة إلى 40 سنة لقائد الفرقة جون هاتلي، و20 سنة لكل من الضابطين جوزف مايو ومايكل ليهي.
ما الذي جرى تحديداً في ذلك اليوم؟ كيف أُعطي أمر القتل؟ هل اعترض أحد عليه حينها؟ ماذا يقول «الأبطال» السابقون عن فعلتهم تلك؟
يجب أن نتخلّص منهم كي لا يقتلونا لاحقاً. فكرة أجمع عليها معظم المستجوَبين
23 ساعة ونصف من التحقيقات العسكرية المسجّلة حصلت عليها شبكة «سي أن أن» الأميركية، وعرضت بعض مقتطفاتها ضمن برنامج «أندرسون كوبر 360»، على مدى أربع حلقات تحت عنوان «جرائم قتل في القناة».
تبدأ الرواية مع من كانوا موجودين في مكان الجريمة ولم يعاقبوا، ومنهم جيس كانينغهام الذي أفشى السرّ بعد 9 أشهر. يعترف هؤلاء بأنهم كانوا خائفين من التعرّض للأذى أو للنبذ من قبل فرقتهم إذا ما اعترفوا بالجريمة، وخصوصاً أنّ «رابط الأخوة» مقدس ضمن الفرق العسكرية.
انتظر كانينغهام لحظة إرساله إلى قاعدة أميركية في ألمانيا كي يفضي بما عنده لمحاميه الخاص. ومن بين ما قاله: «لم أجرؤ على فضح الأمر في العراق خشية ممّا قد يلحقه بي زملائي في الفرقة من أذى»، موضحاً أن «هؤلاء ليسوا أبطالاً كما أطلق عليهم، وليسوا منقذين كما اعتبرهم القادة والشعب».
ولكن كيف تصرّفوا في ساحة الجريمة؟ يروي جوشوا هارتسون، أحد عناصر الفرقة، أنّه أثناء اقتياد الموقوفين العراقيين إلى ضفاف النهر، علم أنّ أحدهم يجيد الإنكليزية. كان هارتسون يبلغ من العمر 19 عاماً في حينها، وسأل أحد الموقوفين العراقيين الذي يتكلم لغته: «هل قتلت الكثير من الأميركيين؟ هل صنعت القنابل؟» فردّ عليه العراقي بضحكة. «تأكدت حينها أنه قتل أميركيين وأنه استمتع بذلك... لذا هو يستحق العقاب»، يتابع هارتسون في شهادته. ويكشف الجندي الأميركي عن أنه قبل إطلاق النار على العراقيين، اقترب قائد الفرقة منه وقال له: «إذا أخذنا هؤلاء العراقيين إلى مركز الموقوفين، فسيُطلق سراحهم بعد أيام، وسيعودون إلى الشارع ويكررون أفعالهم في غضون أسابيع. لذا، علينا الاهتمام بأمرهم (أي قتلهم) فوراً... فهل تمانع؟». أجاب هارتسون: لا.
لم ينفّذ هارتسون القتل، بل تفرّج على زملائه. 3 جنود، بينهم مايكل ليهي، نفّذوا فعلتهم. كان عمره 26 سنة عندما أطلق الرصاص على موقوفَين عراقيَّين من بين الأربعة. نراه في غرفة التحقيق، في حراك مستمر على كرسيه، يضع رأسه بين يديه أحياناً، أو يلتقط رقاقات الـ«تشيبس». ويظهر التحقيق المصوّر مع ليهي، الهدوء المطلق الذي اتسم به الاستجواب. تعامل معه المحققون كزملاء، وكانوا ينادونه «يا صديقي»، لكنهم استخدموا الضغط النفسي لإفشال محاولته التغطية على قائد الفرقة المتورط، و«صاحب فكرة» القتل. «أنت أطلقت الرصاص مرّتين على المعتقلين. ماذا شعرت حينها؟» يسأل المحقق، فيجيب ليهي: «كنت خائفاً».
يروي الجندي الشاب أنه أمر العراقيين الأربعة بالوقوف جنباً إلى جنب، رؤوسهم متجهة إلى النهر، و«أطلقت الرصاصة الأولى من مسدسي نحو رأس أحدهم من الخلف فارتمت الجثة عليّ. ثم قمت بحركة تلقائية، بإطلاق رصاصة ثانية على العراقي الثاني». ويتابع: «لم أسيطر على يدي، هي تصرّفت من تلقاء نفسها، وبحركة اعتيادية أطلقت النار على الشخص الآخر».
وبعد تململ ومراوغة، ينجح المحققون في انتزاع اعتراف آخر منه: «أطلقت النار على عراقيَّين اثنين، لكن الثاني لم يمت على الفور، سمعنا صراخه، ثم جاء قائد الفرقة (هاتلي) وأطلق رصاصتين في صدره فأرداه وتركنا الجثث في القناة ورحلنا».
وبحسب المعلومات، لم يتمكن المحققون من العثور على الجثث بعد عام من البحث. ينظر الجندي إلى المحقق ويعترف: «أعلم أنّني ارتكبت خطأً كبيراً، وأعرف أن عليّ مواجهة عواقبه»، لكنه يصرّ على أنه «لو لم نقتلهم حينها، ولو أرسلناهم إلى مركز الاحتجاز، لكانوا عادوا الى أرض المعركة وقتلونا أو قتلوا رفاقنا».
«يجب أن نتخلص منهم كي لا يقتلونا لاحقاً»، فكرة أجمع عليها معظم المستجوَبين. نفّذ الجنود، على ما يبدو، الكثير من التصفيات بحق مدنيين عراقيين بالمنطق «الاستباقي» نفسه الذي شنّوا حربهم على أساسه. لقد سمعوا مرات عديدة من قادتهم ومن رئيس جمهوريتهم أنّه «يجب أن نقاتل الإرهابيين في بلدانهم كي لا يأتوا إلينا ويهاجمونا في بلادنا» ضمن خطوة استباقية «مشروعة». هكذا طبّقوا الاستراتيجيا نفسها مع العراقيين الأربعة.
جميع الجنود والضباط السابقين دافعوا إلى أقصى الحدود عن سلوك زملائهم
كان عرّاب الفكرة الاستباقية في الجريمة هذه، قائد الفرقة جوزف هاتلي. كررّ مراراً في شهاداته: «أمرت بقتل الموقوفين وشاركت بذلك كي لا نضطر لمواجهة العدو نفسه مرّة ثانية». وفي التحقيق، عبّر هاتلي بصراحة عن رفضه لقوانين الجيش المتعلقة بالتوقيف والموقوفين. كتب رسالة خطية من سجنه حيث يمضي عقوبة السجن 40 عاماً، عبّر فيها عن عدم ندمه على ما قام به وعن اقتناعه المطلق بصوابية أوامره. باختصار، هو يحتجّ على قوانين التوقيف التي «تكبّل» عمل الجنود، بما أنها «مليئة بالمغالطات والثغر»، على حد تعبيره.
وفي الرسالة نفسها، يعبّر قائد فرقة عن انزعاجه الشديد «من سياسة الجيش التي تقضي بالإفراج عن الموقوفين إذا لم تتوافر الدلائل الكافية لاتهامهم». ويشير هاتلي إلى «الإهانة التي يتعرّض لها الجنود، إذ عليهم أن يفرجوا بأنفسهم عن الموقوفين الذين قبضوا عليهم ويعيدوهم إلى الحرية».
وأكثر ما يثير غضب هاتلي هو أنّ «العدو يستغلّ ثغر القانون كي يسهل عملية إطلاق سراحه». ويتوجّه هاتلي في رسالته إلى قيادة الجيش التي يلومها على الوقت والجهد والمال الذي صرفوه كي يحاكموه مع عناصر فرقته ويودعوهم في السجن، ويرى أنهم «لو يبذلون نصف ما بذلوه لملاحقة الأعداء، لا لملاحقتنا نحن، لكنا في وضع مختلف الآن». وفي النهاية، يطمئن هاتلي القادة والجنود في رسالته، إلى أنه كسجين، «هو في المكان الأكثر أماناً».
وأغضبت مواقف هاتلي وبقية الجنود، بعض الضباط الكبار في الجيش الأميركي الذين استغربوا تصرّف «تلاميذهم» المدرّبين على ضرورة احترام وتطبيق القوانين العسكرية بحذافيرها. وفي السياق، أوضح مسؤول مركز الحجز التابع لجيش الاحتلال في العراق دايفيد كوانتوك أنّ «الجنود مدرّبون على كيفية إحضار الدليل الحسّي. نحن لا نطلب منهم الكثير، لكنهم لا يستطيعون توقيف الأشخاص بطريقة اعتباطية من دون دلائل».
ويشدّد كوانتوك على ضرورة تكييف المعركة مع الجيش وليس العكس. ويصف تصرف جنود بلاده في جريمة القناة بأنهم كانوا «القضاة والمحلّفين ومنفّذي الإعدام، وهذا لا يجوز بل يسيء إلى سمعة الجيش الأميركي».
وقد تفاوتت ردود الفعل على عملية القتل تلك بعدما خرجت إلى العلن عبر برنامج «سي أن أن». جميع الجنود والضباط السابقين الذين استضافتهم الشبكة الإخبارية الشهيرة، دافعوا إلى أقصى الحدود عن سلوك زملائهم، مشددين على «الظروف الصعبة التي يعيشها الجندي لحظة مواجهته الموت في ميدان المعركة». أما زوجات الجنود المجرمين، فلا يزلن يعتبرن أزواجهن «أبطالاً ورجالاً طيبين». «الخيارات صعبة هناك بلا شكّ»، يقول أحد المعلّقين، فيما تختم الصحافية شريطها: «يبقى ضحايا جريمة القناة عراقيين من دون أسماء ومن دون وجوه».


قانون الاحتجاز والتعامل مع الموقوفين