الرجل الذي انتخبته الأوروغواي أول من أمس رئيساً لها فريد من نوعه. لا يشبه أحداً وسيدخل من دون شك في معرض الشخصيات التي عوّدتنا أميركا الجنوبية على صنعها خلال العقد الأخير: بعد هوغو تشافيز الضابط الفنزويلي، ولويس إيناسيو لولا دا سيلفا عامل المخرطة البرازيلي، وميشال باشليه الطبيبة التشيلية، وإيفو موراليس مزارع الكوكا الهندي وغيرهم، يطل علينا الآن، مسك الختام، زعيم التوباماروس وزارع الزهور الأوروغواياني خوسيه موخيكا، الملقب بـ«بيبي».سيرة هذا الرجل العجوز تُسرَد على دفعتين قبل أن تعيد وتنظمها شخصية الرجل الفذة. الأولى تبدأ بولادته عام 1935 في منتيفيديو، وبعدما تأرجح الرجل في شبابه بين الحزب الاشتراكي والحزب الوطني، انتسب في السبعينيات إلى حركة التحرر الوطني توباماروس (أوسع تجربة حرب عصابات في المدن) وشارك خلالها في عمليات عسكرية مثل سطو على مصارف وعلى متاجر واحتلال مبانٍ عامة وصدامات مع الشرطة.
في حرب «المغامرة الرومانسية» هذه، التي فاجأها وبررها تحول الأوروغواي أسوة بجيرانها إلى دكتاتورية عسكرية، أصيب موخيكا بست طلقات في جسمه ونجا بأعجوبة، واعتقل أربع مرات وهرب من السجن مرتين وأمضى في المعتقل 15 سنة، منها 13 متتالية.
أصعب سنتين عاشهما موخيكا في بئر تحت ثكنة لا يحسن التحرك فيها لضيقها. وكان يُغذى من نافذة، ليقدم بدوره من فُتات طعامه الغذاء لسبع نملات، بعدما اكتشف في وحشة هذا البئر خارج الزمان، أن «النمل أيضاً يصرخون». ومع أفول النظام العسكري وصدور قانون العفو عام 1985، بدأت السيرة الثانية التي يسردها الرجل.
سنوات قليلة بعد الانفتاح السياسي، يؤسس موخيكا مع عدد من قدامى التوباماروس وأفراد من أحزاب يسارية أخرى «حركة المشاركة الشعبية» التي تطالب بانتسابها إلى «الجبهة العريضة»، بائتلاف للأحزاب اليسارية موجود قبل الانقلاب العسكري. ويحاول هذا الائتلاف عبثاً منافسة الحزبين التقليديين (كولورادو الليبرالي وبلانكو الوطني) اللذين يحتكران الحياة السياسية منذ أكثر من قرن ونصف قرن. وبعد عشر سنوات، نجح هذا التنظيم المتواضع في التحول إلى القوة الرئيسية داخل «الجبهة العريضة»، التي تحولت بدورها إلى القوة السياسية الأولى في الأوروغواي.
وفي عام 1995، يدخل موقف سيارات مجلس النواب على دراجته النارية التي يستعملها أيضاً لبيع الزهور شخص ريفي شعره أشعث يرتدي سروال جينز وحذاءً موحلاً ويركض وراءه حارس سرعان ما يفاجئه ببساطة تتفهم حيرة محاوره: «تمهّل أنا نائب العاصمة». عشر سنوات إضافية، وتنجح «الجبهة العريضة» في الوصول إلى سدة الرئاسة بشخص الطبيب تاباري فاسكيز، ويترأس موخيكا مجلس الشيوخ قبل أن يعين في وزارة الزراعة التي استقال منها عام 2008 استعداداً للمعركة الرئاسية.
«بيبي» موخيكا سيمكث في مزرعته مع زوجته المناضلة لوسيا توبولانسكي، التي تزوجها قبل خمس سنوات بعد عقود من تعارفهما. تتميز خصوصية هذا الريفي المثقف بأنه ذو شخصية تألفت من الحكمة ومن الحلم. لا يشبه أحداً في الأوروغواي ولا حتى في أميركا اللاتنية. لسانه لا يخشى القول بما يفكر به بعيداً عن القوالب الحزبية، ومهما كانت النتائج على شعبيته. قلبه حافظ على خفة المراهقة الحالمة، ما جعل منه معبود الشبيبة في بلد شاخ. قبل أشهر، ارتدى «بيبي» أو «الختيار» أو «الجَدّ من دون أحفاد»، كما يعرّف في الأوروغواي، بذلة رسمية للمرة الأولى في حياته بعد جهد جهيد، وعلى الفور قال إن «البذلة من وقت لآخر، أما ربطة العنق فلا». ووفقاً لآخر الأخبار، فقد أُقنع بارتداء الربطة على الأقل عندما يستقبل في الزيارات الرسمية.
يقول الكاتب الأوروغواياني إدواردو غاليانو إن «الشعب الأوروغواياني مفارقة؛ هو مزيج من التصرف المحافظ ومن التصرف الفوضوي». «بيبي» تجسيد مضيء لهذه المفارقة، وقد يرث بعد سنة، لدى انسحاب لولا ـــــ الذي صار يعدّه صديقه ونموذجه ـــــ دور «عرّاب اليسار» الذي جلبه لولا نحو أكبر بلد في أميركا الجنوبية، والذي قد يعيده موخيكا إلى أصغرها.