معمر عطويلم تكن التحوّلات الأخيرة التي شهدتها العلاقات الإيرانية ـــــ الأميركية، هذا الأسبوع، مفاجئة لجهة كسر الجليد القائم بين البلدين منذ عام 1980. فقد سبقت هذه التحولات لقاءات سريّة وعلنيّة ومناورات إعلامية، مهّدت لجعل الرقص مع «الشيطان الأكبر» مُستساغاً.
وربما كانت دعوات الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى الحوار مع طهران، خلال حملته الانتخابية وبعد فوزه بالرئاسة، ورسائل التهنئة المتبادلة بينه وبين نظيره الإيراني محمود أحمدي نجاد والمرشد الأعلى علي خامنئي، محطات هامّة في تقريب وجهات النظر.
غير أن الخطوات الأولى بدأت منذ عهد الرئيس الأسبق، البراغماتي المعتدل علي أكبر هاشمي رفسنجاني، الذي تمرّد على ثوابت الثورة من خلال فضيحة «إيران غيت». منذ تلك الحادثة، قيل الكثير عن براغماتية السياسة الإيرانية، التي تعلن المبدئية في تعاطيها مع إسرائيل «الغدة السرطانية» وأميركا «الشيطان الأكبر»، فيما تقوم بأي خطوات لازمة تجاه «العدو» إذا اقتضت مصالحها ذلك.
وبدأت تتجلّى هذه البراغماتية أكثر في عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، الذي جرت خلاله أول زيارة لوزير خارجية إيراني (كمال خرازي) لواشنطن، حيث التقى نظيرته الأميركية مادلين أولبرايت في خريف عام 2000.
ثم جاء غزو أفغانستان والعراق، ليكون بمثابة القشة التي قسمت ظهر بعير المبادئ الثورية، ولا سيما أن التعاون الإيراني مع الأميركيين والبريطانيين في مهاجمة هذين البلدين لم يعد خافياً على أحد، وجرى تناوله في العديد من المحافل، على اعتبار أن عدوين لدودين مثل حركة طالبان وصدام حسين أخطر من انتشار جحافل الغزو في الخليج والمنطقة. والمفارقة هنا أن هذه التحولات في الموقف الإيراني طرأت رغم أن الرئيس الأميركي السابق جورج بوش كان قد صنّف إيران في عام 2002، من ضمن «محور الشر»، فيما كانت طهران بعد أشهر قليلة توافق على محادثات بين برلمانيين من البلدين اقترحتها واشنطن.
تبعت هذه الخطوات تصريحات للمرشد الأعلى، قال فيها إن «قطع العلاقات مع أميركا ليس دائماً». تصريحات سبقتها رسالة للرئيس نجاد إلى بوش في عام 2006، يقترح فيها «وسائل جديدة» لتخفيف الاحتقان في العالم. لكن واشنطن أبدت استعدادها للمشاركة في محادثات متعددة الأطراف مع طهران إذا تخلت هذه الأخيرة عن برنامجها النووي.
هذه السياسة من الجانبين، التي كانت دائماً تُغطى بتهديدات متبادلة ومناورات عسكرية بهدف تحسين شروط التفاوض، توصلت في عام 2007 إلى عقد 3 جولات من المفاوضات بين وفدي البلدين بشأن الوضع في العراق برعاية بغداد.
وفي عام 2006، شهدت أروقة أحد الفنادق في شرم الشيخ، على هامش مؤتمر عن العراق، لقاءً بين خبراء أميركيين وإيرانيين وتبادل حديث مقتضب بين وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس ونظيرها الإيراني منوشهر متكي.
موافقة طهران على تخصيب اليورانيوم في روسيا أعفى الحليف من الإحراج وطمأن العدو إلى الشفافية
وبدا في ما بعد أن اللقاءات العلنيّة بين الأميركيين والإيرانيين، ما هي إلا نتيجة طبيعية للقاءات سريّة، كشفت عنها صحيفة «الإندبندنت» البريطانية، في نيسان 2008. إذ ذكرت أن واشنطن وطهران منخرطتان في مناقشات سرية عبر قناة خلفية على مدى السنوات الخمس السابقة.
الأمر الهام هنا أن أحد المفاوضين أبلغ الصحيفة يومها باقتراح أميركي يقضي بإعطاء إيران فرصة لتخصيب اليورانيوم خارج أراضيها، عن طريق «كونسورتيوم» روسي. اقتراح يبدو أنها وافقت عليه طهران هذا الأسبوع.
وفي السياق عينه، كشف وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، الذي يُعَدّ من الصقور، أنه أجرى محادثات مع الإيرانيين في وقت لم يحدده، مشيراً إلى أن «المفاوضات تعتمد على التوازن بين الحوافز والعقوبات».
وفي نهاية عام 2007، ظهر واضحاً التباين في المواقف الأميركية، وخصوصاً بين المؤسسة السياسية والمؤسستين العسكرية والأمنية، حين صدر تقرير عن 16 جهازاً استخبارياً أميركياً يعلن أن طهران أوقفت العمل ببرنامج نووي تسلّحي في عام 2003. واللافت في الأمر أن رئيس مجلس خبراء القيادة الإيرانية، رفسنجاني، كان على علم بالتقويم الاستخباري قبل صدوره، حسبما كشف مسؤول إماراتي يومها.
أمّا حصيلة هذه المسيرة الطويلة من علاقات المد والجزر بين البلدين، فقد تُوّجت بسماح أميركا لوزير الخارجية الإيراني بزيارة نادرة لواشنطن الأسبوع الحالي. خطوة سبقها سماح السلطات الإيرانية لسفارة سويسرا التي تدير المصالح الأميركية لدى طهران، بلقاء ثلاثة معتقلين أميركيين دخلوا البلاد عن طريق كردستان العراق بطريقة غير مشروعة.
وعلى ما بدا في اجتماع جنيف، الذي أفسح المجال للقاء بين مندوب إيران سعيد جليلي ونائب وزير الخارجية الأميركية وليم بيرنز، أن طهران قد أسهمت في تسهيل عملية التفاوض بتطبيقها لمطالب الجانب الأميركي، مثل إدراج البرنامج النووي على جدول المحادثات، رغم رفضها لذلك سابقاً، والسماح للمفتشين الدوليين بالوصول إلى مفاعل نووي في قم، والتزامهم بجدول زمني للقاءات جديدة.
حجر الرحى هنا موافقة طهران على تخصيب اليورانيوم في روسيا، الموقف الذي أعفى الحليف في موسكو من إحراج الموافقة على عقوبات مشددة، وطمأن العدو في واشنطن إلى أن التخصيب أصبح في منتهى الشفافية.