Strong>رفاهيّة التنقّل في الحافلات والمترو... والسيّارات «لزوم ما لا يلزم»للتنقّل في المدن الأوروبيّة متعة. متعة الاختبار والمشاهدة، سواء مشياً أو عبر الدراجة الهوائية التي تكتشف أن لها قيمة فريدة، وتعدّ من أساسيّات الحياة في الغرب، فيما لا تعدو كونها وسيلة لهو في بلادنا

باريس ـ حسام كنفاني
مروحة من الخيارات تتاح أمام الزائر الراغب في التنقّل من مكان إلى آخر في باريس؛ الحافلة أو المترو أو التاكسي أو الدراجة الهوائية، وأخيراً المشي. في الواقع، لا يأتي استخدام الأقدام أخيراً في قائمة وسائل النقل، فعادةً ما يكون أول في العاصمة الفرنسية في ظل الظروف الجويّة الملائمة.
المشاة في العادة هم من معالم المدن في العالم، وباريس مدينة متآلفة مع مشاتها. لهم الأولوية وتوفير سلامتهم يتقدم على ما دونه. سلامة تتضح من حجم الأرصفة المنتشرة على جنبات الطرق، والتي تضاهي في عرضها حجم الطريق نفسه المخصّص للسيارات، وقد تتفوق عليه، كما هي الحال في جادة الشانزليزيه على سبيل المثال.
سلامة لا تقتصر على الأصحّاء من المواطنين، فلذوي الاحتياجات الخاصة حقوق متساوية. هكذا تسمع فجأةً صوتاً صادراً عن الإشارة المرورية عند أحد التقاطعات. صوت يشير إلى الموقع الذي تكون فيه. تفاجَأ ربما بمغزى هذا الأمر، إلا أن المفاجأة تزول عند معرفة أن الغاية من الشرح هي مساعدة فاقدي البصر على تبيان موقعهم في المدينة. فالعصا التي يحملها هؤلاء تحمل مجسّات تلتقطها الإشارات الضوئية لتطلق شرحها تلقائيّاً.
متعة المشي تتضاعف بالمعالم المتناثرة على يمين الطريق ويساره. لا شعور بالتعب في ظل المشاهد المتناغمة هنا وهناك. فبالإمكان السير لأكثر من أربع ساعات متواصلة من دون الإحساس بالحد الأدنى من الإنهاك. الطرق والمشاهد تحفّز على الاستمرار؛ هنا كنيسة قديمة وهناك بيت أثري، وهذا الزقاق يشهد على تراث البنى الباريسي قبل عمليات الترميم، وها هو قوس النصر وأقواس أخرى كثيرة زرعها نابوليون بعد كل معركة في باريس.
وحين يحلّ التعب، فالحل موجود. أينما وضعت قدميك في باريس تجد مقهى أو مطعماً في استقبالك لتستريح من متعة المشي. والمطاعم رغم كثرتها، فإنها دائماً ملأى، وخصوصاً في ساعات الظهيرة، حين يخرج الموظفون إلى غدائهم. أشكال متعددة من المطاعم تشهد على الثقافات الكثيرة المتعايشة في العاصمة الفرنسية، أصناف تبدأ من الشرق الآسيوي وصولاً إلى الأميركي اللاتيني، مروراً بمأكولات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
باريس مدينة متآلفة مع مشاتها، لهم الأولوية وتوفير سلامتهم يتقدّم على ما دونه
وحين تحلّ ساعات العودة إلى مركز الانطلاق، فالخيار يكون عادة بالمترو أو بالحافلة. وسيلتان تُستعملان على نطاق واسع في المدن الأوروبية، ولا سيما أنها أكثر راحةً وأسرع وصولاً من غيرهما. ومن اختبر انتظار الحافلات في بعض المدن العربية فعليه أن يجرّب تلك الأوروبية. هناك لا انتظار إلى الأبد أو بسقف زمني مفتوح. لكل حافلة موعد لا تحيد عنه. وعند كل محطة انتظار يمكن مشاهدة أرقام الحافلات وملاحظة عدّاد للوقت الباقي لوصولها. عدّاد لا ينفكّ يتناقص حتى يصل إلى الصفر في لحظة توقف الحافلة أمام محطة الركّاب. طريقة مثيرة تقوم على ربط الحافلات بالأقمار الاصطناعية، التي تتمكّن من تحديد مكانها وتوقيت وصولها إلى مقصدها.
ولمن يخشى الزحام، فالحافلة هي الوسيلة الأمثل للتخلص منه فوق الأرض، وخصوصاً أنها تسير على ممرات محدّدة مختلفة عن تلك المخصصة للسيارات العادية. أما تحت الأرض، فلا مكان للزحام إطلاقاً. شبكة عملاقة من القطارات تقطع العاصمة الفرنسية من أقصاها إلى أقصاها. لا مكان داخل باريس بعيداً عن متناول المترو وخرائطه المنشورة على جدران كل المحطات، التي عادةً ما تكون في متناول الركاب بعد شرائها من المكتبات.
ليست الخرائط وحدها ما تقرأه في المترو أو الحافلات، فمن النادر أن ترى شخصاً لا يحمل كتاباً في يده. عادة ليست مستساغة في بلادنا لكنها أساسيّة في المدن والأوروبية، حيث يعمد المواطنون إلى الاستفادة من لحظات الانتقال.
لا شيء يجبر الباريسي على اقتناء سيارة، أو التنقّل فيها داخل المدينة. هي لزوم ما لا يلزم في مثل هذه الحالة، ولا سيما أن سعر صفيحة البنزين يتخطّى حدود الستين دولاراً. لذا تبقى السيارة في الغالب مركونة طوال أيام العمل، وتُستخدم في العطلة الأسبوعية للخروج من العاصمة، رغم أن القطارات توفّر ذلك أيضاًَ.
لكن أكثر ما يثير الإعجاب في وسائل النقل الباريسية خصوصاً، والأوروبية عموماً، هي الدراجة الهوائية. تكتشف فجأةً أن لها قيمة استثنائية وليست مجرّد وسيلة لهو للأطفال أو التريّض. للدراجة اعتبار في القوانين المرورية، وحتى إن لها ممرات خاصة في الطرق العامة وإشارات ضوئية، تماماً مثلها مثل أيّ وسيلة نقل أخرى تعمل بالمحركات. واستخدامها ليس حكراً على جنس دون آخر أو عمر دون آخر، رغم أن النساء والمسنّين هم أكثر مستخدميها.
والدرّاجات أشكال وأنواع وملحقات تسهّل التنقّل الجماعي. من الممكن رؤية امرأة تقود دراجة وتسحب خلفها مقطورة صغيرة تضع فيها اثنين أو ثلاثة من أولادها. وليس من المستغرب أن تلاحظ دراجة وفي مقدمتها مقعد مشابه لمقعد السيارة ينقل ثلاثة أشخاص، مع الحفاظ على شروط السلامة المتمثلة بحزام الأمان.
وسيلة قد تكون مثاليّة في بلادنا للتخلص من الزحام الخانق، شريطة أن تترافق مع قوانين تحميها وممرات توفّر سلامة راكبيها.


ينتشر في المدن الأوروبية جهاز الـ «جي بي آر أس»، المرتبط بالأقمار الاصطناعية ويساعد على تحديد أماكن الشوارع والمعالم. نادراً ما تخلو سيارة من مثل هذا الجهاز الذي يدلّ السائق على الطريق صوتاً وصورة. فيكفي أن تُدخل اسم المكان المقصود حتى يتولى الجهاز تحديد أسهل الطرق المؤديّة إليه مع الأخذ بالاعتبار أي أشغال مستحدثة قد تكون أدت إلى قطعه. لا شيء يُترك للصدف أو للسؤال، فالمَثَل «يللي بيسأل ما بيضيع» ليس متوافراً في أوروبا.


... وللسيجارة قصّة أوروبيّة: تحايل وتساهل في الحظر

لدى الوصول إلى أيّ من المدن الأوروبية، يحمل المدخّنون هموم المنع المعمّم في جميع المقاهي والمطاعم والفنادق. لكن معايشة المنع مختلفة كليّاً، واكتشاف حالات التحايل أو التغاضي عن القانون مثيرة للاهتمام. فللسيجارة قصّة أوروبيّة تبدأ من سعرها ولا تنتهي في مكان تدخينها.
القانون كان صريحاً في حظر التدخين في الأماكن المغلقة، فكان البديل في الهواء الطلق. ولهذا لجأت غالبية المطاعم والمقاهي إلى الاستحصال على تراخيص احتلال الأرصفة أو جزء منها كي لا تخسر زبائنها من المدخّنين.
ويشرح أحد العارفين بجغرافيا المقاهي في باريس أن بسط الطاولات على الرصيف ليس جديداً، لكن جديده هو تكثيف هذا الانتشار. فبعدما كان الأمر يقتصر على عشر طاولات للمقاهي الكبيرة، بات من الممكن أن تنتشر أكثر من خمسين طاولة في شكل متلاصق لا يسمح بحرية الحركة.
واللافت أن الطاولات التي يجري الحديث عنها مختلفة كليّاً عما هو متعارف عليه من حجم للطاولات في المطاعم الكبيرة. فطاولة المقهى لا تستوعب أكثر من شخصين، وبالكاد تسع فنجاني قهوة. وكل هذا لتوفير ما أمكن من مساحة لاستيعاب الراغبين في أخذ جرعاتهم من النيكوتين.
وإذا كان جوّ الأيام الماضية في باريس مشمساً، فإن الكثير من المقاهي احتاطت لأيام الشتاء الماطرة والباردة، التي لا تسمح بالجلوس في الخارج لفترة طويلة. احتياطات تمثّلت في الستائر البلاستيكية التي تحمي من زخات المطر، وفي الوقت نفسه تبقي مفهوم الهواء الطلق قائماً. وللبرد حلّ آخر، فأنابيب التدفئة المتنقّلة قادرة على توفير هالة من الحرارة لتغطّي طاولة أو اثنتين، وتقلّص بعض لسعات الصقيع.
وإذا كان هذا دأب المقاهي والمطاعم في التحايل على المنع، فهناك نوع من التغاضي أو التساهل من جانب السلطات. وفي المدينة التي تعاقب على رمي أي ورقة في الشارع، لا ضير من إطفاء أعقاب السجائر على الرصيف أو في الساحات. أكوام من أعقاب السجائر تتجمّع في الليل لتختفي مع الصباح الباكر، حين تبدأ رحلة جديدة من نفث الدخان.
ولسعر السجائر في أوروبا قصة أيضاً، فغالباً ما يُنصح الزائرون المدخّنون القادمون من بلدان الشرق الأوسط بالتزوّد بحاجاتهم من علب السجائر، التي قد يكلّف شراؤها ثروة في باريس أو غيرها، حيث يعمد بعض المدخنين إلى تسوّل السيجارة أو شرائها بالمفرق. ويجب ألّا تفاجأ إذا كنت جالساً في أحد المقاهي وجاء من يعرض عليك نصف يورو في مقابل الحصول على سيجارة من علبتك، أو من يعرض عليك سيجارة في مقابل أخرى كان قد أخذها منك في وقت سابق.
حسام...