رقص وغناء من العالم وتمثيل إيمائي... و«هيبيّون جدد»حسام كنفاني
مشاهد الرقص والغناء والتمثيل والرسم في الشارع قد لا تستوقف سكّان المدن الأوروبية الكبيرة، على غرار باريس وميونخ، لكنها بالتأكيد تثير فضول السياح والزائرين الذين يتوقفون مليّاً أمام كل حالة من هذه الحالات الفنيّة المنتشرة في الساحات العامة ومحطات المترو، التي تتحول إلى مسارح عامة.
حالات لا تتشابه في كثير من الأحيان، ولا سيما أنها تحاكي ثقافات متنوعة، منها المحلي ومنها القادم من وراء البحار، والتي جاءت لتستغل بعضاً من تراثها وتستحصل منه على بعض قوتها عبر مساهمات المتفرجين الاختيارية.
التراث الغنائي لسكان التيبيت، على سبيل المثال، ليس متوفراً في الأسواق، وقد لا يتمكن الكثير من السياح من قصد التيبيت للتعرف إلى فن أهل تلك المنطقة، لكنهم في «مريام بلازا» (ساحة مريم) في ميونخ بإمكانهم ذلك. اثنان من الصينيين التيبيتيين يفترشان الأرض مع آلتين موسيقيتين ليقدما وصلة من العزف والغناء الغريب على أسماع العرب والغرب على حد سواء، ولا سيما أنه يعتمد على أسلوب غير مألوف من الطبقات الصوتية. وللراغبين في اقتناء هذه الموسيقى، يعرض التيبيتيان أقراصاً مدمجة لبيعها بـ 15 يورو (20 دولاراً) للواحد. ورغم أن السعر يعدّ مرتفعاً نسبيّاً، إلا أن الموسيقى استهوت الكثير من المارة الذين أقبلوا على الشراء.
وقد لا يملك الكثيرون فرصة التوجّه إلى أفريقيا لمشاهدة الرقصات التقليدية، لكنهم في ساحة مونمارت الفرنسية سيكونون على موعد مع شابين في مقتبل العمر، يبدوان من المهاجرين الجدد إلى فرنسا، وهما يؤديان رقصات من بلادهما مرتديين اللباس التقليدي الأفريقي، في محاولة لتليين متطلبات العيش الأوروبيّ الباهظ.
الساحات والمترو تتحوّل إلى مسارح عامة... والمهاجرون يعرضون تراثهم
وساحة مونمارت هي بالأساس مقصد للسياح باعتبارها ساحة الرسامين. هناك يتجمّع عشرات الرسامين لعرض خدماتهم على المارة ورسم صور شخصية أو كاريكاتورات أو لوحات حسب الطلب لقاء 20 يورو (30 دولاراً تقريباً). وإذا كنت غير راغب في الرسم، فمن الممتع أساساً الوقوف خلف أحد هؤلاء الفنانين ومراقبته وهو ينقل أحد زبائنه على ورق خلال عشرين دقيقة. الرسامون ليسوا حكراً على مونمارت، رغم أنها ساحتهم. فهم ينتشرون أيضاً في أماكن متفرقة من باريس، وخصوصاً على ضفاف السين في أيام الآحاد، حين تلتقي جمع الفرنسيين والسياح للتوجه إلى أحد الأسواق الشعبية أو زيارة كاتدرائية نوتردام.
الموسيقيون أيضاً لهم نصيب من «فن الشارع». نصيب قد يكون الأكبر بين سواهم، ولا سيما أنهم الأكثر انتشاراً في الطرق والساحات ومحطات المترو. وبعضهم قد يصبح من علامات هذه الساحة أو تلك المحطة. آلات متنوعة، من الساكسوفون إلى الكمنجا، تتقاطع كلها عن المقطوعات الموسيقية الكلاسيكية، التي يتفنّن هؤلاء الموسيقيون في عزفها على مسامع المارة.
أما التمثيل الإيمائي فحصته من المشاهدة عادة ما تكون أكبر بين المارة. ممثلون من مختلف الأعمار يقومون بوصلات كوميدية أو درامية على مرأى من مئات الأشخاص المتجمّعين في ساحة «ميريام بلازا» في ميونخ. أداء يتميّز بالجودة، ولا سيما أنه يتصاحب مع أزياء تساعد في تأدية الدور الذي اختاره هذا الممثل أو ذاك ليستدرّ به إعجاب السياح ويورواتهم. أحدهم اختار أن يمثّل شخصية رجل يتحدّى الرياح، ولهذا الغرض سرّح شعره إلى الأعلى، كما جمّد ربطة عنقه على شكل يوحي بأنها تتطاير مع الهواء. وآخر طلى نفسه بلون فضّي ووقف بلباس من العصور الإمبراطورية لجذب أنظار المارة، وخصوصاً الصغار منهم.
وإضافة إلى الفنانين، تنتشر مجموعات مما يمكن تسميتهم «الهيبيين الجدد» في بعض الساحات العامة. يمكن تمييزهم من ملابسهم وتسريحات شعرهم، إضافة إلى اعتمادهم على الغناء الجماعي والرقص. أسلوب عبثي استعراضي عادة لا يكون من أجل المال بل عروض مجانية للمتعة الشخصيّة. لكن بعض المتفرجين برقصاتهم يساهمون إعجاباً.
أساليب فنية كثيرة كلها تصب في خانة واحدة: الحصول على ما تيسّر من المردود المادي للمساهمة في سدّ نفقات تكاليف العيش الباهظة في أوروبا.


... وللتسوّل فنونه أيضاً

المتسولون في المدن الأوروبيّة مختلفون. أساليبهم ليست متشابهة مع تلك المعتمدة في البلاد العربية، رغم أنك ترى بعض النماذج المنقولة. لهم فنهم الخاص في استدرار عطف المارة. أساليب تتطور مع اختبار السيكولوجية الغربية ومكامن ضعفها وإقبالها على «فعل الخير».
عادة ما يكون الأطفال في البلاد العربية هم أدوات «التحنن» التي يلجأ إليها المتسولون. أما في أوروبا، فالأداة هي الكلاب. إذ نادراً ما ترى متسولاً من دون مرافقة كلب أو كلبين. أمر يدعو إلى العجب، ولا سيما أن إطعام الكلاب يحتاج إلى ميزانية توازي إطعام البشري في أوروبا. لكن «إذا عُرف السبب بطل العجب»، كما يقول المثل المعروف. فالكلب عادة ما يكون من «عدة شغل» المتسولين الذين باتوا يدركون أن عاطفة المواطن الغربي تجاه الكلب أكبر منها تجاه الطفل، لذا فإن هذا الحيوان يُسهم في زيادة غلة المتسوّل.
فن التسوّل لا يقف عند الكلاب، فأحد المتسولين في جادة الشانزليزيه الباريسية ابتكر أسلوباً طريفاً لجمع الأموال. اعتمد على صنارة الصيد وسيلة، بعدما وصل بها علبة بلاستيكية يصطاد رزقه بها من المارة. هكذا، أثناء تجوالك أمام متاجر الجادة، تُفاجأ بعلبة تتدلى أمامك من لا مكان، لتكتشف بعدها أن مصدرها هو هذا المتسوّل «الفنان». وسيلة، عادة ما تحظى بإعجاب الكثير من المتجولين والعاملين في الشارع، الذين يقدمون له المال والأكل والسجائر.
الأسلوب العربي غير غائب عن باريس. بولفار سان جيرمان شاهد على ذاك المصري الذي يستوقف المارة بعد التيقّن من أنهم عرب، ليروي لهم قصته: «تزوّجت من بولونية وأنجبت منها طفلة، وبعد فترة دخلت عليها لأجدها تخونني. وهي اليوم أخذت ابنتي وأنا أبحث عنها، لو كان بإمكانكم مساعدتي».
رواية «مأساة» اعتاد سماعها الكثير من العرب في هذا الشارع الباريسي. وحين يتيقن بأن روايته لم تستدرّ عطف «أبناء جلدته» ولا حميّتهم، ينتقل طلبه إلى «سيجارة». هكذا بظرف ثوانٍ تختصر «المأساة العائلية» بلفافة من التبغ، بعدما كان بحاجة إلى مساعدات على مستوى محامين ومسؤولين.