في حضرة البيرة لا أهميّة لميركل... ولا لبن لادنميونيخ ــ حسام كنفاني
أول ما يلفت النظر لدى الدخول إلى ميونيخ هو لافتات المرشحين للانتخابات التشريعية، التي أجريت في السابع والعشرين من أيلول الماضي. الزيارة جاءت غداة الانتخابات مباشرةً وبعد صدور النتائج. التصوّر الأوّلي هو أن تداعيات العملية الديموقراطية ونتائجها ستكون حاضرة في أوساط سكان المدينة الألمانية، على غرار الحال في لبنان على سبيل المثال، حيث الهمّ السياسي يطغى على ما دونه.
مجرّد ساعات وتكتشف مدى خطأ هذا التصوّر، فلا الفوز الكبير لأنجيلا ميركل وحزبها «الديموقراطي المسيحي»، ولا الهزيمة التاريخية لفرانك فالتر شتاينماير وحزبه الاشتراكي، يمكن أن تشغل الألمان عموماً، والبافاريين خصوصاً، عن متابعة شؤونهم واحتفالاتهم. الفضول يدفع إلى سؤال بعض الألمان عن سبب انتخاب هذا المرشح أو ذاك الحزب. الإجابات عادةً ما تأتي عامة ومرتبطة مباشرة بالاقتصاد والضرائب. إليزابيث، النادلة في أحد المقاهي، قالت إنها اختارت ميركل لأنها تعبّر عنها أكثر، وتحسن الكلام وإيصال رؤيتها بوضوح. أما نيكولاس، الموظف في شركة استشارية، فلا يحبّذ اختيار اليسار. ويقول «يكفينا ما ندفعه من ضرائب، لن أنتخب اليسار ليفرض عليّ ضرائب جديدة ويمنحها إلى العاطلين من العمل».
مرور عابر على الانتخابات. لا أحد يتوقف عندها، وقليلون أصلاً يرغبون في الكلام عنها. لديهم أولويات أخرى، يأتي في مقدمتها الاحتفال بمهرجان ميونيخ للبيرة، الذي بدأ هذا العام في 21 أيلول واستمر أسبوعين.
حتى التهديدات الأمنية لا تثير الكثير من القلق لدى الألمان. ولا يبدو أن أصداء تهديدات زعيم تنظيم «القاعدة»، أسامة بن لادن، لألمانيا على خلفية مشاركتها في الحرب على أفغانستان، أثرت كثيراً في المشاركين في مهرجان ميونيخ. ورغم أن بن لادن خص المهرجان بتهديد مباشر، إلا أنه لم يحصل أيّ تغيير في برنامجه. لكن الإجراءات الأمنية في المدينة كانت واضحة؛ سيارات شرطة على مداخل المهرجان، وتدقيق من بعيد بهيئة المارة والحضور، إضافةً إلى منع الطائرات من التحليق فوق مكان الاحتفال.
إجراءات لم تؤثّر فعليّاً في المهرجان والمشاركين فيه. لا شيء يعكّر على البافاريين هذا الاحتفال السنوي الذي بدأ قبل 199 عاماً. فميونيخ تحيي العام المقبل الذكرى الـ 200 لانطلاق مهرجان البيرة، الذي يُروى أن سبب إقامته للمرة الأولى كان للتخلّص من فائض مخرون البيرة المنتَجة في المدينة.
المهرجان عامّ، في كل أرجاء المدينة تجد ملامحه، ولا سيما في اللباس البافاري التقليدي، الذي لم يعد حكراً على الألمان، فحتى السيّاح باتوا يشترونه للاندماج في جموع المحتفلين. لباس له إشاراته ولغته الخاصة بالنسبة إلى النساء. مكان ربط الحزام على الوسط ليس عبثيّاً، لكلّ مكان معنى؛ إذا كان عن اليسار فالفتاة غير مرتبطة، أما عن اليمين فعكس ذلك.
ورغم الأجواء الاحتفالية العامة، فإنّ مركز المهرجان هو الأساس لتلمّس حال البهجة والاحتفاء بالبيرة. المركز عبارة عن ساحة بحجم ملعبَي كرة قدم تتوزّع فيها المطاعم وألعاب الأطفال، غير أن الأبرز هو مجموعات الخيم الضخمة التي يتجمّع فيها المحتفلون.
الدخول إلى إحدى هذه الخيم ينقل الزائر إلى عالم آخر. عالم بافاري بحت؛ مئات الأشخاص يتحلّقون حول طاولات جماعية لاحتساء ليترات من البيرة الطازجة. تجمّع صاخب على أنغام موسيقى بافارية تقليدية ينسجم معها أهل الإقليم، ويبدأون بالغناء والرقص الجماعي. مئات يردّدون الكلمات والألحان نفسها. هم ليسوا فرقاً مدربة، بل أشخاص متشرّبون لتراثهم. «شعب على موجة واحدة»، هكذا وصف أحد الأصدقاء المشهد الاحتفالي في الخيمة. أجواء لا بد للزائر أن يتفاعل معها، وهو يشارك بعض الألمان طاولتهم. وحتى لو كان لا يعرف أيّاً من كلمات الأغنية أو لحنها أو أسلوب رقصها، فإن الزائر يجد نفسه تلقائياً مندمجاً مع الأنغام، ومتمايلاً مع الحركات. من الممكن اكتشاف حميّة ألمانية متينة، لكن من دون تعصب. وعلى عكس الصورة النمطية السائدة عن الشعب الألماني بأن أفراده جافّون، فإنك تكتشف بشاشة وتعاوناً لم تختبرهما في أي مكان آخر؛ الألمان لا يأنفون التكلّم بالإنكليزية، ويتبرّعون لمساعدة الضيف، من إرشاده في الطرق، إلى قراءة لائحة الطعام نيابةً عنه.
وللبيرة في ألمانيا طقوسها الخاصة، حتى في طريقة جمع الكؤوس وحملها. هذا المشروب التقليدي يعدّه الألمان وجبة، يستبدلونه بالعشاء على سبيل المثال. «هذا خبزنا السائل (liquid bread)»، هذا ما قالته فتاة ألمانية كانت تجلس إلى جانبي في إحدى الخيم. تعبير مثير وجديد. أنت تعرف أن البيرة مصنوعة من الخميرة والشعير، لكن لا تعرف قصتها الأصلية، التي ترويها هذه الفتاة بالإشارة إلى أن أساس هذا المشروب جاء من أديرة الرهبان، الذين ابتكروه كوسيلة تحايل على الصوم. وتضيف، بعدما عرفت أنني عربي، «كان هناك أيام لديهم مثل شهر رمضان، يُمنع عليهم الأكل، لكن يُسمح لهم بالشراب». لذا لجأوا إلى فكرة تذويب خبز الشعير وشربه، ومع الوقت جاء تخميره ليتحول هذا الشراب إلى البيرة المعروفة حاليّاً.
لا شيء بلا تاريخ في هذا المكان. تاريخ تشهده في المدينة، التي رغم تدمير أكثر من نصفها خلال الحرب العالمية الثانية، فإنّها أبت إلا أن تبقى محافظة على جوهرها وتراثها وآثارها المتناثرة وطبيعتها الغنّاء، بدءاً بقصر البلدية الأثري، مروراً بالحديقة الإنكليزية المترامية الأطراف، وصولاً إلى «أسد بافاريا» الذي يستقبل الزائر ويودّعه.


... ثم جاء «الطليان»لكن المشهد اللافت في مثل ذاك اليوم كان غزو «الطليان» لميونيخ، واحتلالهم لساحات المدينة لحضور المباراة. من الممكن تمييز الإيطاليين من بعيد في هذا المكان الهادئ. سحنتهنم السمراء لا تحمل ملامح السكان الأوروبيين التقليديين. وحيث توجد الضوضاء والفوضى تجدهم. انتشروا في ساحة البلدية بهرجهم ومرجهم وتحرّشهم بالسيّاح، فأخذوا يستوقفون المارة لالتقاط الصور والتغزّل بالفتيات قبل التوجه إلى المباراة التي انتهت بالتعادل السلبي.