اليسار الألماني يُعيد خلط الأوراق قبل الانتخابات العامّةمعمر عطوي
من خلال نتائج انتخابات ولايات سكسونيا وتورنغن وسارلاند (30 آب)، يمكن القول إن الحزب اليساري الألماني نجح في اقتحام الحياة السياسية، واحتل مكاناً لائقاً في المشهد العام، قد يؤهله في ما بعد لتأليف حكومة ائتلافية مع أحد الحزبين الرئيسيين في البلاد: الحزب الاشتراكي الديموقراطي «SPD»، الذي يعتبر الأقرب الى طروحات اليسار رغم اعتماده، منذ سقوط الرايخ الثالث (1945)، رؤية «واقعية» تولّف بين اقتصاد السوق ورقابة الدولة.
وبدا الحزب اليساري، الذي يحظى وفق استطلاعات الرأي الخاصة بالانتخابات العامة التي تجرى في 27 أيلول الحالي بنسبة 9 في المئة، متقدماً في ولاية تورنغن حيث حقق 27.4 في المئة، في مقابل 24 في المئة في الانتخابات السابقة عام 2004. وفي ولاية سارلاند، قفز من 15 في المئة إلى 21.3 في المئة، بينما تراجع قليلاً في سكسونيا، فنال نسبة 20.6 في المئة مقابل 21 في المئة عام 2004. أمّا الاتحاد المسيحي الديموقراطي «CDU»، فقد بقي في هذه الولاية في الطليعة (40.2 في المئة) على عكس الولايتين الأخريين.
لم يكن هذا النجاح لليسار جديداً على المراقبين، إذ استبشر القيادي في حزب اليسار، ديتمار بارتش، منذ أسابيع، خيراً من هذا الاستحقاق، حين ذكر لـ«صحيفة برلينر»، أن الحزب الاشتراكي لن يتجاوز حزب اليسار خلال الانتخابات المحلية في ولايات سكسونيا وتورنغن وسارلاند. وسبق ذلك نجاح الحزب في ولايات هيسن وسكسونيا السفلى وهامبورغ، العام الماضي، حيث تجاوز اليسار نسبة الحد الأدنى من الأصوات التي تمكّنه من الدخول إلى البرلمان.
هذا الواقع أدى إلى إعادة التموضع على الخريطة الحزبية لألمانيا، ولا سيما أن الحزبين الكبيرين «CDU» و«SPD»، لم تعد لأيٍّ منهما الغالبية التي قد تخوّل أحدهما لأن يؤلف الحكومة منفرداً. كذلك فإن حظوظ إعادة تحالف ما يسمى «الأحمر والأسود» القائم حالياً بين الاشتراكيين والمحافظين، برئاسة المحافظة أنجيلا ميركل، تراجعت كثيراً في ظل التباين الذي ظهر خلال الحكومة الائتلافية منذ عام 2005، والذي سُمّي تحالف الضرورة.
وفي ظل الخريطة الجديدة، بات أمام الحزب المسيحي خيار التحالف مع الحزب الديموقراطي الحر الليبرالي «FDP»، فيما تتوافر معطيات أفضل للحزب الاشتراكي الذي تربطه رؤى مشتركة مع حزبي الخضر واليسار.
وبات من المؤكد أن تقدّم اليساريين لم يُعِد خلط الأوراق فقط، بل أسهم في تبديل اقتناعات داخل الاشتراكيين أنفسهم، لجهة «مشروعية» التحالف مع الحزب اليساري. فقد نشأ بعد انتخابات ولاية هيسن المحليّة العام الماضي، جدل حاد وسط الحزب الاشتراكي، الذي لم يحقق وحليفه التقليدي حزب الخضر، الغالبية المطلوبة لتأليف الحكومة في الولاية. يومها أعطى رئيس الحزب، كورت بيك، الضوء الأخضر لمرشحته في الولاية، أندريا يبسيلانتي، للتحالف مع اليسار، ما أدى إلى ظهور تيارين متعارضين وسط الاشتراكيين: الأول يمثله بيك ولا يرى ضيراً من التحالف مع اليسار، والآخر يمثله نائب رئيس الحزب، بيتر شتاينبروك، الذي حذر من فقدان الحزب لصدقيته، ووزير الخارجية فرانك فالتر شتاينماير، الذي وافق أخيراً على مضض على هذا التحالف، بشرط أن يكون فقط على مستوى ولاية هيسن ولا ينسحب على مستوى الانتخابات الاتحادية للعام الحالي.
وسط هذه الأجواء، بدأ الحديث يدور في أوساط المحافظين عن احتمال فرط عقد الائتلاف الحاكم في ولاية هيسن، ولا سيما بعد ظهور إشارات من الحزب الاشتراكي بإمكان انتخاب مرشحته، بمساعدة أصوات نواب حزب اليسار، لرئاسة الحكومة المحليّة. لعل التيار اليساري وسط الاشتراكيين، لا يزال يحتفظ بعلاقة ود مع أحد قياديي حزب اليسار، أوسكار لافونتين، الذي خرج من رحم الحزب الاشتراكي، منشقاً، ليؤسس مع زعيم حزب الاشتراكية الديموقراطية الشيوعي السابق، غريغور غيزي، «اليسار الجديد». ففي الحزب الاشتراكي الذي لا يزال في بعض طروحاته يتجه نحو شرائح المجتمع والنقابات العمالية، ثمة من يرى صعوبة في إقصاء حزب اليسار. بل يحلم هذا التيار بتكوين ائتلاف واسع مع اليسار والخضر، في وجه المحافظين والليبراليين. مع الإشارة هنا الى أن حزب الخضر أيضاً خرج من رحم اليسار. كما هو حال الحزب الاشتراكي الذي بدأ في أوائل القرن العشرين، ماركسياً.
وكان الرئيس الألماني الأسبق، المحافظ رومان هيرتزوغ، قد توقّع في أوائل العام الماضي أن يؤدي حزب اليسار دوراً حاسماً على المستوى الاتحادي خلال الانتخابات العامة. وحذر، في مقال كتبه بصحيفة «زود دويتشه»، من مخاطر ظهور حكومات أقلية، الأمر الذي يضطر المستشار لطرح «حلول وسط شديدة الحماقة»، تهدف لدفع برنامجه وإمراره، مشيراً إلى أن ذلك سيجعل المستشار في الساحة الخارجية بمثابة «بطة عرجاء».
ربما استفاد اليسار من الانعطافة الشديدة التي شهدها «الاشتراكي» حين بدأ بعد الوحدة بتبني شعار «الوسطية الجديدة». شعار دفع شريحة واسعة من مؤيدي الطروحات اليسارية والماركسية، التي كانت تجد في الاشتراكيين أفضل الممكن لتمثيلها، إلى البحث عن خيار آخر جديد.
في أي حال، يبدو أن شبح كارل ماركس، عاد ليحلّق في قلب أوروبا، وبالذات فوق موطنه الأصلي ألمانيا. ففي ظل الأزمة المالية العالمية الناتجة من السياسات الرأسمالية، ورغم تصاعد التيارات اليمينية والمحافظة، ثمة شريحة أدركت أهمية طروحات اليسار في تطبيق العدالة الاجتماعية، ولا سيما أن المحافظين، ومعهم الاشتراكيون قد ذهبوا أخيراً بعيداً في ممالأة الولايات المتحدة وسياساتها.


«بونابرت سار» يوحّد اليساريّين