ربى أبو عمومرتدياً بذلة رسمية، أطلّ رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين من بولندا مبتسماً. رمى تاريخ الحرب العالمية الثانية خلف ظهره، وقرر المضي قدماً. بدت تصريحاته جريئة، إلا أنه عرف كيف يطعّم هذه الجرأة بمهاراته الخطابية. في مقابل السلاسة، تكمن قوة العميل السابق لجهاز الاستخبارات السوفياتية.
أول من أمس، قال بوتين من بولندا، خلال مشاركته في إحياء ذكرى مرور 70 عاماً على بدء الحرب العالمية الثانية، إن «الروس والبولنديين حاربوا عدواً مشتركا خلال الحرب»، وإن «الروس عدّوا البولنديين رفاق سلاح»، رافضاً «الانتقادات البولندية التي تجعل الاتفاق الألماني ـــــ السوفياتي (مولوتوف ـــــ ريبنتروب) مسؤولاً عن اندلاع الحرب العالمية الثانية». وأشار إلى أن «الاتفاق الألماني السوفياتي كان الأخير في سلسلة وثائق، فيما الجميع ارتكب أخطاءً». وعدّد اتفاقات سابقة سمحت، في رأيه، باندلاع النزاع، «منها معاهدة ميونيخ»، مذكّراً بمشاركة بولندا «في تقطيع أوصال تشيكوسلوفاكيا في عام 1938، وتوقيع اتفاق عدم اعتداء بولندي ألماني في عام 1934».
هذا ما حاول بوتين فعله؛ المهادنة من جهة، وتحديد الأخطاء من جهة أخرى. إلا أن «التنازل السياسي الأكبر» تمثّل في إدانته، في مقال نشرته الصحيفة البولندية «غازيتا ويبورشا» الاثنين الماضي، الاتفاق الألماني السوفياتي، معتبراً أنه «غير أخلاقي»، ومبرراً أن «الاتحاد السوفياتي في عهد جوزف ستالين لم يكن أمامه خيار آخر».
هكذا، أخرج بوتين من ذاكرته السياسية طرد الدبلوماسيين الروس من بولندا، وانضمام الأخيرة إلى حلف شمالي الأطلسي، واستخدام وارسو حق النقض في تشرين الثاني من عام 2006 ضد المباحثات بين روسيا والاتحاد الأوروبي، ومطالبتها بفرض عقوبات على موسكو. هذا عدا عن معارضتها دخول روسيا إلى منظمة التعاون والتطور الاقتصادي.
وبدلاً من ذلك، ركّز بوتين على تحسّن العلاقات بين البلدين، الذي بدأ في عام 2007، بعد تعيين دونالد تاسك رئيساً للوزراء في بولندا، وسحب الأخيرة معارضتها لتوقيع اتفاقية التعاون بين موسكو والاتحاد الأوروبي، وتغيير موقفها الرافض لدخول روسيا إلى منظمة التعاون والتطور الاقتصادي. يضاف إلى ذلك الجولة الأولى من المباحثات الروسية ـــــ البولندية في كانون الثاني من عام 2008 بشأن موضوع منظومة الدفاع.
وبينما ركّز بوتين على ترطيب الأجواء مع وارسو، اهتم رئيس جهاز الاستخبارات ليف سوتسكوف بتعرية الأخطاء البولندية استناداً إلى الوثائق التي كُشفت في كتاب بعنوان «أسرار السياسة البولندية في الفترة 1935 ـــــ 1945». وقال إن «القيادة البولندية التي تولّت السلطة في البلد عشية الحرب العالمية الثانية خططت لتجزئة الاتحاد السوفياتي والقضاء عليه، وعملت على تأجيج النزعات الانفصالية في القوقاز وأوكرانيا وآسيا الوسطى». ودافع عن توقيع معاهدة عدم الاعتداء مع ألمانيا عام 1939. وقال إن «الشيء الرئيسي يتلخّص في أننا تفادينا بدء الحرب في الشرق».
تحاول روسيا الاستفادة من مفهوم الدبلوماسية. فبينما يركّز بوتين على تطوير العلاقات الروسية ـــــ البولندية، تتولّى أجهزة أخرى في الداخل مهمة التذكير بالتاريخ، وتحميل بولندا المسؤولية، ورفض أي مقاربة بين هتلر وستالين. فمع توكيل أساتذة بحلّ أزمة فهم التاريخ بين بولندا وروسيا، بدأ الطلاب الروس عامهم الدراسي، تزامناً مع ذكرى مرور 70 عاماً على اندلاع الحرب العالمية الثانية، بكتب جديدة أقرّتها وزارة التعليم والعلوم الروسية، تركّز على ديموقراطية الاتحاد السوفياتي خلال الحرب، وتبرّر مشاركتها في تحقيق الإمبراطورية الروسية.