في بلد محاصر بالانهيار الاقتصادي الخانق، وبرزمة المجازر اليومية التي تولّدها الحرب على المخدّرات، يخطف قس بوليفي طائرة مكسيكية ليوصل «رسالة إلهية» أخطأت العنوان
بول الأشقر
ربما هو التاريخ المشؤوم وكنا قد اقتربنا من الحادي عشر من أيلول. ربما هي جغرافيا الحدود المكسيكية وحربها المتصاعدة بين مافيات المخدّرات وعليها، التي حوّلت البلد إلى نوع من كولومبيا الثمانينات، ربما هي عقدة الطائرة التي انفجرت فوق العاصمة المكسيكية في اليوم نفسه لانتخاب باراك أوباما، والتي دفنت معها قيادة الحرب على المخدّرات وأسرار انفجارها.
مهماً يكن السبب، فعندما اتصل قبطان طائرة الرحلة الداخلية الرقم 576 التي تصل كانكون بالعاصمة مكسيكو الساعة الواحدة ظهراً من يوم الأربعاء ليبلغ أن الطائرة مخطوفة، حبس العالم أنفاسه، واحترز للأسوأ، وألغى الرئيس المكسيكي فيليبي كالديرون رحلة جوية داخلية كان ينوي القيام بها، ووُضعت القوى المسلحة في حالة استنفار.
فبعد نصف ساعة تقريباً على إقلاع الطائرة، يُبلغ رجل طويل القامة، اسمه خوسي بيريرا المضيفة أن الطائرة مخطوفة، وأن له على متنها ثلاثة متواطئين معه، وحقيبة سوداء مليئة بالمتفجرات. تُبلغ المضيفة القبطان، الذي يقفل غرفة القيادة قبل إبلاغ سلطات المطار. تستمر الرحلة عاديةً والركاب الـ 104، أكثريتهم الساحقة من النساء والأطفال، يجهلون ما يحدث على متنها. في مقدّمة الطائرة، تفاوض عجيب بين القبطان والخاطف، الذي تبيّن أنه قس إنجيلي بوليفي ويمسك الكتاب المقدس بيده، ويطلب من قائد الطائرة أن تلفّ حول المدينة «سبع مرات»، فيجيبه هذا الأخير بأن الوقود الباقي يحول دون ذلك، فيوافق بيريرا على الهبوط. وفقط بعد إنجاز الهبوط في منطقة على طرف المدرج، حيث انتشرت قوات الجيش والشرطة، يذيع القبطان أن خطراً ما يهدّد الطائرة، من دون تحديد ماهيّة هذا الخطر.
ويستمر التفاوض ويشرح بيريرا، وعمره 44 سنة، أنه يحمل «رسالة إلهية» وعليه تسليمها إلى الرئيس كالديرون في هذا اليوم 9/9/9 (9 أيلول 2009) الذي «يعاكس 666 التي هي أرقام شيطانية»، والرسالة تنذر بحصول «هزة أرضية وشيكة لم تعرف مكسيكو مثيلة لها»، ولا يعترض على خروج النساء والأطفال الذين يسارعون إلى مغادرة الطائرة، بعد أربعين دقيقة بعد الهبوط، وقبل أن يدخل إليها عشرات الجنود ويعتقلوا الركاب الباقين.
بعد فترة، يُفرج عن الجميع ـــــ أحدهم نائب من حزب الشغيلة ـــــ باستثناء خوسي، الذي يشرح أمام الكاميرات، وعلى وجهه ابتسامة عريضة أسرار لاهوته الرقمي، وأيضاً كيف لم يكن مسلحاً، وأن مضمون حقيبته يتلخص بمنبّه، وطرد مؤلف من علبتي عصير كارتون، ومملوءة بالرمل، وألصق عليها لمبات صغيرة مضيئة. ويصدر حزب «الشغيلة» بياناً يعترض فيه على معاملة نائبه، ويطالب بتحقيق عن فضيحة الخطف، التي يرى فيها عملية للفت الأنظار عن «الرسالة البشرية» التي تلاها الرئيس كالديرون قبل يوم، والتي رفعت ضريبة القيمة المضافة بنسبة 2 في المئة، وأيضاً تسعيرة الخدمات الأساسية.

أراد الدوران حول المدينة سبع مرات لمنع زلزال يتهدّدها
أما بيريرا، فقد أتى المكسيك من سانتا كروز في بوليفيا قبل 17 سنة، وهو متأهّل من مكسيكية ولهما ثلاثة أولاد، ويعمل قسّاً في ولاية واشاكا. وقد طلبت زوجته من كالديرون العفو عن «هذا العمل الأحمق». وينتمي بيريرا إلى كوكبة الكنائس والشلل الإنجيلية التي أخذت تهدّد هيمنة الكنيسة الكاثوليكية المطلقة على أميركا اللاتينية، وهي تمثّل نوعاً من «الأصولية» المسيحية التي تنتشر في الأحياء الفقيرة، وتنجح في التأثير في العقول بواسطة طقوس مؤثّرة تعتمد على العجائب، وعلى أصوات دعاتها الجهورة، فضلاً عن إنشاء وسيلة لترقٍّ اجتماعيّ لكهنوتها. على سبيل المثال، يمكن إيجاد على موقع الـ «يو ـــــ تيوب» الإلكتروني على شبكة الإنترنت، شرائط لبيريرا يعرضها في تجمعاته الدينية، حيث يظهر في بوليفيا كقاتل يهدّد بمسدسه، ويتعاطى الكحول والمخدرات قبل أن يحوّله الإيمان ويعيده إلى الطريق القويم، فنراه الآن مرتّلاً الأناشيد الدينية.