أنفاق عسكريّة من لبنان إلى غزّة وفيتنام وكوريانيويورك ــ نزار عبود
توصّلت عقول عسكرية رسمية عديدة، ومنظّمات مسلّحة كثيرة في العالم ومنطقتنا، إلى قناعة بشأن ضرورة العودة إلى الحرب العالمية الأولى وأساليب حروب الخنادق العميقة التي حفرها عشرات آلاف الجنود تحت التلال والجبال. اليوم، تمتدّ شبكة أنفاق حديثة تحت الجبال في بورما، ويُقال إنّ طولها يناهز عشرات الكيلومترات. كما برهنت مغاور الجبال الشرقية لأفغانستان عن مناعة نادرة حالت دون تحقيق نصر كاسح على القوات الأطلسية «إيساف». وفي غزة، ما كان الجندي الإسرائيلي جلعاد شليط ليقع في الأسر لولا الأنفاق العسكرية التي وصلت إلى موقعه خلسة. وثبت أنّ المقاومة في لبنان ما كانت لتنتصر في حرب تموز 2006 لولا الأنفاق التي بقيت سرية حتى آخر لحظة في مارون الراس وبنت جبيل وعيترون وبقية المدن والقرى الحدودية. وأكثر ما يقلق الإسرائيليّين أنّ تأتيهم المفاجآت من تحت أقدامهم، ربما من كل اتجاه. عندها لا تنفع أبراج المراقبة العالية ولا أقمار التجسّس. حتى إنّ مخطّطين استراتيجيين باتوا يرجّحون استخدام الأنفاق الدفاعية المضادة، أو القدرات النووية المدمِّرة كوسيلة رئيسية لتدمير الأنفاق ومن يستخدمها في ضربات قد تأتي قاضية. هذا إذا اكتُشفت.
هذا بالفعل ما حدث للألمان في معركة ميسين الشهيرة عام 1917. هناك، في فجر 7 حزيران، نسف البريطانيون، بأكبر لغم في التاريخ، مواقع الجيش الألماني. قتلوا في ثوان قليلة، 10 آلاف جندي كانوا محصَّنين داخل خنادق وأنفاق في هضبة بلجيكية مُحي أثرها واختفى جوارها عن الخريطة.
كان الجيش الألماني محصَّناً فوق سلسلة تلال وهضبة تقع غرب قرية ميسين في غرب مقاطعة فلاندر البلجيكية. منحتها الأرض المرتفعة دفاعات طبيعية منيعة في جنوب شرق نهر يبريس. استغرق الإعداد لإزالة تلك العقبة من وجه الحلفاء عاماً ونصف عام، سعى خلالها الجنرال البريطاني هربرت بلومر إلى تحطيم السيطرة الألمانية على المفترق الاستراتيجي في حوض نهر يبريس. وجاءت العملية بعد فشل القوات الفرنسية في إحراز تقدم على ذلك المحور. تحوّلت المنطقة إلى حقل أنفاق متراكمة. وكان الألمان يتمترسون في أنفاق وخنادق ظنّاً منهم أنهم في مأمن، وكان البريطانيون يحفرون أنفاقاً تحتها وأحياناً بمحاذاتها على عمق عشرات الأمتار. عملية لم تكن مضمونة بالنظر إلى أنّ انهيارات التربة ورطوبتها تمثّلان مخاطر لا بد من توافر شروط هندسية خاصة لتجاوزها. كان لا بد من الحفر في طبقات من الطين الأزرق، الذي لا يسمح بنفاذ الماء. لم تغب الخطة عن بال الألمان الذين راقبوا الصلصال الأزرق بطائراتهم من الجو، ولاحظوا انتشار الردم في كل مكان. كانوا يعرفون أنه يأتي من طبقات جوفية عميقة، وبالتالي أدركوا أن الأنفاق تُحفر تحت أقدامهم. ردّوا احتياطاً بحفر المزيد من الأنفاق دفاعاً عن وجودهم المهدّد. شارك الجنود الكنديون والأوستراليون البريطانيين في الحفر على أعماق راوحت بين 25 و30 متراً تحت الخنادق الألمانية. وبعدما فرغوا من صنع غرف كبيرة متصلة بشبكة الخنادق المتراكبة، وضعوا 21 لغماً زنتها 455 طناً من المتفجرات. لم تعرف الحروب عبوات ناسفة بهذا الوزن من قبل.
ومساء 6 حزيران 1917، قال الجنرال بلومر لجنوده قبيل ساعات من الساعة الصفر، «أيها السادة، ربما لا نصنع التاريخ غداً، لكننا حتماً سنغيّر الجغرافيا». وقبيل موعد التفجير، شنّ البريطانيون هجوماً مدفعياً من 2200 مدفع ثقيل استُقدمت إلى ساحة المعركة قبل أسبوع. ولم يتوقف القصف المدفعي الثقيل إلا قبل عشر دقائق فقط من الموعد المحدَّد لتفجير الألغام الجوفية. كانت الثالثة صباحاً. وبتأخير عشر دقائق، ضغط الضباط على الأزرار ومحوا التلال والقرى المجاورة عن الخريطة. ولسوء حظّ الألمان أن التفجير وقع أثناء تبديل القوات بعد القصف الثقيل. أُبيدت القوات المنصرفة والقوات المقبلة لتسلّم المواقع. هكذا كانت ألغام أنفاق ميسين درساً مكلفاً للألمان، خسروا بنتيجتها جبهة رئيسية من جبهات الحرب العالمية الأولى، ولم يمضِ وقت طويل بعد المعركة حتى خسروا الحرب.
كان هذا قبل إنتاج القنابل النووية القادرة على إحداث زلازل باطنية تدمّر الأنفاق ومَن بداخلها. كذلك كان ذلك قبل إنتاج القنابل الذكية التي تستطيع تغيير اتجاهها وتدخل الكهوف ولا تنفجر إلّا على أعماق معينة بعد الغوص عشرات الأمتار تحت سطح الأرض. لذا كان لا بد لمستخدمي الخنادق أن يبقوها سرية إلى أقصى حد ممكن لكي يضمنوا عنصر المباغتة. في هذا العصر، لا تزال الأنفاق ضررورية، لكن من يحفرها تحت ساحة عدوّه لا بد أن يدرك أن خطته محكومة بالفشل بمجرد التعرف إلى مكان النفق أو آثار الحفر خارجه.
اليوم، يحسب الأميركيون ألف حساب للأنفاق، ويرون أنّ الكوريين الشماليين «أسياد» في هذا الحقل، ويتّهمونهم بأنهم يساعدون البورميين على مدّ الأنفاق التي قُدِّرَت تكلفتها بملياري دولار، والتي يُقال إنها مُعدّة لمواجهة هجوم نووي.
يتمتّع الكوريّون بتجربة تمتدّ عشرات السنين في هذا المجال. ويُقال إن الأنفاق التي مدّوها قد تصل إلى عاصمة كوريا الجنوبية سيول. كما أنّ التجربة الفيتنامية تمثل أيضاً درساً لا يُنسى. فالفيتناميون كانوا أساتذة في مد أنفاق قليلة التكلفة، والوصول بها أحياناً إلى أهداف استراتيجية كالقواعد العسكرية وحتى السفارة الأميركية في سايغون، وكان لها الفضل في إنقاذ أرواح مئات ألوف الفيتناميين من الحرب الكيميائية التي حرقت مساحات واسعة من بلادهم، إضافةً إلى القصف الجوي الحارق.


معدّات أميركيّة على حدود غزّة

واشنطن ــ محمد سعيد