ربى أبو عموأطلق الرئيس الأميركي باراك أوباما يوم الخميس الماضي مفاجأةً، تمثّلت في إعلانه خطّة جديدة للدفاع الصاروخي الأميركي، تتضمّن إلغاء نشر الدرع في كل من بولندا وتشيكيا. قرار استراتيجي، أثار العديد من التحليلات المتناقضة، بين من عدّ هذه المبادرة بمثابة تنازل لروسيا، أو مقايضة بالملف النووي الإيراني، ومن صنّف الخطوة في إطار العَوَز الأميركي لموسكو، وخصوصاً في أفغانستان!
وعدّ بعض المحلّلين قرار أوباما أقرب إلى رسالة موزّعة بين روسيا وإيران أساساً، تستبق لقاء «القمة» بين الرئيس الأميركي ونظيره الروسي ديمتري مدفيديف، على هامش القمة الاستثنائية لمجلس الأمن الدولي بعد غد الخميس لبحث «منع انتشار الأسلحة النووية، ونزعها بصورة عامة».
وحرص وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس على توضيح القرار المفاجئ لحفظ ماء الوجه الأميركي. قال بدايةً إن «أولئك الذين يقولون إننا نلغي الدفاع الصاروخي في أوروبا، إما أنهم ضلّلوا أو أساؤوا عرض حقيقة ما نفعله»، مشيراً إلى أنه «على المدى القريب، ستُنشر مجسّمات وصواريخ اعتراضية في جنوب أوروبا لمواجهة التهديدات الوشيكة من إيران، أو غيرها». السبب فنّده المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية جيف موريل، الذي أوضح أن «النظام السابق (أي عهد الرئيس الأسبق جورج بوش) كان يستند إلى اعتقاد بأن إيران مصمّمة على تطوير برنامج للصواريخ البالستية العابرة للقارات. إلّا أنه بعد المعلومات الاستخبارية الأخيرة، تبيّن أن الإيرانيين يركّزون أكثر على تطوير القدرات القصيرة والمتوسطة المدى».
ما حاول غيتس وغيره من المسؤولين الأميركيين تأكيده، هو عدم حدوث فعل «الإلغاء»، وبالتالي «التنازل»، بل اعتماد «برنامج جديد للدفاع الصاروخي» من شأنه «مواجهة التحديات الحالية بصورة أفضل».
العديد من الخبراء توقّعوا اتخاذ الإدارة الأميركية هذا القرار لسببين أساسيّين: الأول مرتبط بالكلفة العالية لهذا المشروع، الذي يتطلّب التزاماً طويل المدى لجهة إمداده بالمواد اللازمة لإنجازه. حتى إن رئيس تحرير مجلة «السياسة الخارجية الروسية في الشؤون الدولية»، فيودور لوكيانوف، قال إنه «لا إمكان لتنفيذ نظام الدفاع الصاروخي».
أما السبب الثاني، فيتعلق بالقيمة الاستراتيجية للمشروع التي كانت دائماً «موضع شك»، بحسب أوكسانا أنتونينكو، أحد محلّلي المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية. يقول إن «الدرع الصاروخية لن تغطّي كامل أراضي أوروبا» (أي لن تكون قادرة على توفير الحماية)، مضيفاً إنه «حتى من وجهة النظر الأميركية، لم يكن المكان مثالياً».
هذا لا يعني أن روسيا كانت خارج الحسابات الأميركية. غالبية التقارير الصحافية والتحليلات السياسية تحدّثت عن «مقايضة» الدرع الصاروخية بالملفّ النووي الإيراني. واستند البعض إلى مصدر دبلوماسي روسي رفيع المستوى كشف عن أن «الولايات المتحدة طالبت روسيا بتحقيق مسألتين أساسيتين: وقف تسليم إيران صواريخ أس ـــــ 300، ودعم قرار في مجلس الأمن الدولي لفرض مزيد من العقوبات على طهران».

غالبية التقارير الصحافية والتحليلات السياسية تحدّثت عن «مقايضة» الدرع الصاروخية بالملفّ النووي الإيراني
روسيا من جهتها، سارعت إلى إجهاض مقايضة كهذه. وزير الخارجية سيرغي لافروف حذّر من فرض عقوبات إضافية عاجلة على إيران بسبب برنامجها النووي، لأن ذلك سيمثّل «خطأً جسيماً».
هكذا ردّ لافروف، مستبقاً لقاء ممثلي الدول الست الكبرى (الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا وألمانيا) مع إيران في الأول من تشرين الأول المقبل، لبحث رزمة جديدة من الاقتراحات الإيرانية، في ما يمثّل اجتماع الفرصة الأخيرة قبل فرض عقوبات جديدة تتوعّد بها الدول الغربية. أما «ردّ الجميل»، فتمثّل بدايةً في إعلان روسيا «تخلّيها عن مشروعها نشر صواريخ اسكندر في كالينينغراد، الجيب الروسي الواقع بين بولندا وليتوانيا»، وإن ظل النبأ محل شدّ وجذب مع نفي جنرال روسي أمس له.
ويبدو واضحاً أن مباردة أوباما ما هي إلّا الترجمة الأكثر عملية لإعلانه عودة العلاقات الروسية ـــــ الأميركية إلى النقطة الصفر، تمهيداً لبداية مثمرة، تقطع مع السياسة الهجومية التي اعتمدها سلفه جورج بوش حيال روسيا. كما تبدو تعبيراً عن الحاجة الأميركية الملحة إلى المساعدة الروسية في العديد من الملفّات، في مقدمتها أفغانستان، التي يدرك أوباما أن مغادرتها برأس مرفوع غير ممكنة من دون رضى موسكو وتعاونها. ولم يستبعد خبير في العلاقات الروسية ـــــ الأميركية أن يكون قرار واشنطن بمثابة «تبادل مبادرات مع موسكو، بعدما سمحت باستخدام مجالها الجوي لنقل الجنود والعتاد العسكري الأميركي إلى أفغانستان في تموز الماضي»،
إضافةً إلى هذين السببين، لا شك في أن الأزمة الاقتصادية، التي تعصف بالولايات المتحدة، قد أدّت دوراً في هذا القرار، الذي لا شك في أنه فتح باب التعاون واسعاً بين عدوّي الحرب الباردة. من الكثير معرفة انعاكاسات هذا التقارب على منطقة الشرق الأوسط.